تنامت الدعوة إلى الإصلاح نتيجة ظاهرة العنف المؤسس على المرجعية الدينية التي أصبحت مقلقة، وتشكل خطورة بالغة على الأمن والاستقرار في المجتمعات الإسلامية المنهكة أصلا بأمراض الأمية والفقر وهشاشة النظم السياسية في الكثير منها.

وزاد من خطورة الظاهرة وبأسها تبنيها من جماعات من المسلمين منتشرة في كل أنحاء المعمور تساعدها التقنيات العلمية ووسائل التواصل الحديثة على إحكام التنظيم وعلى اختيار وسائل الأداء الفعالة.

ورغم أن الأغلبية المطلقة من المسلمين لا تؤمن بإديولوجية العنف، فإن الجماعات السالفة الذكر تتمكن بسهولة ويسر من استقطاب المجندين الذين تحتاج إليهم للاستمرار في نشر وفي تنفيذ مخططاتها مستعينة بالأوضاع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، في المجتمعات الإسلامية، وبالاستغلال والتدخل بمختلف أشكالهما اللذين تمارسهما القوى العالمية النافذة على العالم الإسلامي.

تعددت الآراء حول وسائل الإصلاح وأولوياته، يركز بعضها على إصلاح النظام السياسي أو إقرار "الديمقراطية"، وبعضها الآخر على "حقوق الإنسان" والبعض الثالث على "فصل الدين عن الدولة" والبعض الرابع على وسائل الأمن والصرامة في العقاب لـ "المتطرفين"، وبعض خامس، وسادس... الخ.

لا يسع المجال لمناقشة هذه الآراء وما فيها من صواب أو مبالغة، والذي نود إثارته هو أن فتاوى التكفير، والجهاد، وتغيير المنكر... إلخ هي فتاوى "اجتهادية فقهية" تؤسس على "فهم وتفسير" نصوص الشريعة فهل لدينا "نظام" لهذا الفهم والتفسير؟ وهل لغياب هذا النظام علاقة بفتاوى التكفير والجهاد؟ وهل في الإمكان إيجاد "نظام" لتفسير وتطبيق نصوص شريعة الإسلام؟.

هذا ما نحاول الجواب عنه في الفقرات الثلاثة الآتية:

الفقرة الأولى: المراحل التي مر بها تفسير وتطبيق نصوص الشريعة وأحكامها.
الفقرة الثانية: الواقع الحالي.
الفقرة الثالثة: معالم "النظام" المرغوب فيه للتفسير والتطبيق.

الفقرة الأولى: المراحل التي مر بها تفسير وتطبيق نصوص الشريعة وأحكامها.

يمكن التمييز بين مرحلتين في موقف المسلمين من فهم نصوص الشريعة وتطبيقها نعرضهما باختصار ثم نرى ما يميز كلا منهما عن الأخرى.

أولا ــ المرحلة الأولى: رافقت هذه المرحلة فترة نزول الرسالة حيث كانت تشريعاتها المكية كما يقول أبو إسحاق الشاطبي مطلقة غير مقيدة وكلية وليست جزئية() امتدت المرحلة إلى عصر التابعين، فكان المسلم يرجع بصورة أساسية إلى فهمه الشخصي في تفسير وتطبيق الآيات والأحاديث حتى ما كان منها في المرحلة المدنية متعلقا بوقائع جزئية.

وهذا لا ينفيه الثابت:

1)  مما كان يحدث بين الصحابة والتابعين من سؤال بعضهم لبعض عن تفسير آية أو عن حكم لهذه الجزئية أو تلك من وقائع الحياة. فالتفاوت المعرفي وتبادل استفادة الناس منه، سنتان متلازمتان ولازمتان لحياة الإنسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لذلك فإن ما ينبغي التركيز عليه هو أن السائل لم يكن "مجبرا" على السؤال لأنه "غير مؤهل" للرجوع إلى النص وبالتالي فهو ملزم بـ"تقليد المجتهد" وتنفيذ "فتواه" دون مناقشة أو بحث عن التبرير أو العلة وفق ما قررته الثقافة التي رسخها مصطلحا: "مجتهد" و"مقلد" فيما بعد.

2) من التخلي أحيانا عن الرأي الشخصي، والانقياد للرأي المخالف الذي تبناه الخليفة أو الأغلبية، فهذا يدخل في حسن تدبير الاختلاف، وليس خضوعا لفكرتي الاجتهاد والتقليد اللتين أسست عليهما المرحلة الموالية.

ثانيا ـــ المرحلة الثانية :

بدأت المرحلة الثانية في فهم وتفسير نصوص الشريعة بظهور أفراد من التابعين ومن بعدهم انقطعوا للتحصيل وملازمة حلقات التدريس والتعليم إلى أن تمكنوا من حصيلة معرفية رواية ودراية للكتاب والسنة أهلتهم لاستقطاب التلاميذ في حلقات التدريس، وعموم الناس في الاستفتاء بعد أن تكاثرت الأسئلة نتيجة عجز الأغلبية عن التعامل المباشر مع الكتاب والسنة بسبب حداثة عهدها بالدين الجديد وجهلها بلغة نصوصه وهي العربية.

وقد تمكن الإمام الشافعي رحمه الله من التنظير لهذه المرحلة وإبراز عناصر التصور الذي تقوم عليه وأهمها:

1) كل واقعة تنزل بمسلم في حياته يوجد دليل في كتاب الله يهدي إلى حكمها().

2) المسلمون في فهم وتفسير نصوص الشريعة قسمان: مجتهدون ومقلدون.

3) الأحكام التي يستنبطها المجتهد تعتبر موافقة للكتاب والسنة ومأخوذة منهما فهي جزء من "أحكام الشريعة" مثل الدالة عليها نصوصهما الصريحة والقطعية.

4) إذا اختلفت آراء المجتهدين «وسع كلا أن يقول بمبلغ اجتهاده ولم يسعه اتباع غيره فيما أدى إليه اجتهاده بخلافه»().

5) كل من لم تتوفر فيه "شروط الاجتهاد" يعتبر "مقلدا" وهو ملزم بتلقي الأحكام من "المجتهد" وتطبيقها دون مناقشة أو بحث عن التعليل وبالأخص في المعاملات وعلاقات التعايش والسلوك.

6) لا يكون "مجتهدا" إلا من توفرت فيه شروط خاصة تتعلق بالمعرفة والمعلومات، وبملكة القدرة على الفهم والاستنباط إضافة إلى حسن التدين واستقامة السلوك.

7) ضبط تفسير النصوص واستنتاج الأحكام منها بقواعد وضوابط يجب على المجتهد إتقانها وبناء اجتهاده عليها، تفاديا للتطفل والعشوائية في نسبة أحكام إلى الشريعة دون بيان لوجه دلالة نصوصها على تلك الأحكام.

وإذا حاولنا تقييم الفكرة التي انبثقت منها المدرسة الجديدة لتفسير نصوص الشريعة، نقول جازمين أنها كانت "ثورية فكرية" عميقة.

فالإسلام بلغ الحدود الغربية لإفريقيا والحدود الجنوبية لفرنسا واقترب من شمال آسيا وشرقها الأقصى، ودخلت فيه شعوب متباينة الأعراف واللسان، مختلفة التقاليد والثقافات، في هذا الواقع كان استمرار مبدأ "التفسير الحر" لنصوص الشريعة، يشكل خطرا على الإسلام عقيدة، وشعائر، ومعاملات، وقيما وأخلاقا. التفسير الحر يعني أن كل فرد انتسب إلى الإسلام يحق له القيام به، ودون أن يتقيد بأي ضابط أو قاعدة من قواعد الدلالة اللغوية أو غيرها. والسماح به ينتهي حتما إلى كارثة عامة على آخر الرسالات ولكن الله غالب على أمره، وهو الحافظ لرسالته (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون).

ولعل تنقل الإمام الشافعي رحمه الله بين شبه الجزيرة العربية والعراق ومصر، هو الذي نبهه إلى تأليف رسالته المؤسسة لعلم أصول الفقه.

تأسيس علم "أصول الفقه" كان فكرة عبقرية تتلخص في وضع "نظام" ــ بالمفهوم الاصطلاحي الحديث لكلمة "نظام" ــ لفهم نصوص الشريعة وتفسيرها يقيها كيد المضلين، وفضول المقصرين.

وكل فكرة خلاقة تنتقل بأفق الفكر من طور إلى طور لا تنشأ مكتملة النضوج خالصة من كل هفوة ونقيصة، لأن سنة التطور تأبى ذلك. و"نظام" تفسير النصوص الذي سعت "أصول الفقه" إلى بنائه لم يكن معصوما من هذه الهناة.

ومن أهم ما تمكن الإشارة إليه من ذلك:

أ ـ الاكتفاء بشروط نظرية للاجتهاد:
من البدهي أن يتوفر المتصدي لتفسير نصوص الشريعة على المؤهلات التي بدونها تنتفي الجدية في عمله، وتنعدم الثقة في آرائه.

لكن شروط المعرفة والسلوك شديدة المرونة يتعذر قياس عناصرها بدقة بين مختلف الأفراد فضلا عن غياب من يقوم بهذا القياس وتسند إليه سلطة التقرير في توفر أو عدم توفر شروط الاجتهاد.

وكانت النتيجة ظهور مئات المجتهدين بين القرنين الثاني والثالث تعددت آراؤهم في الأغلبية المطلقة من الأحكام الاجتهادية() وهو ما فرض التقليد المذهبي وإنهاء الاجتهاد.

ب ـ قواعد أصول الفقه ضرورية ولكنها غير كافية:

وضع قواعد تضبط تفسير النصوص أمر لا يستغنى عنه، ولكن استعمال الفرد "المجتهد" لهذه الضوابط لا يكفي لإضفاء صفة الحكم الشرعي الملزم على الرأي الذي ينتهي إليه وتسويته مع الحكم المأخوذ من نص قطعي الثبوت والدلالة وذلك لعدة أسباب في مقدمتها:

ـ أن الكثير من قواعد أصول الفقه ذاتها مختلف فيه إثباتا ونفيا، وترتيبا عند التزاحم.

ـ أن هذه القواعد مرنة الدلالة ومتداخلة مثل صيغ الأمر والنهي، والنصوص المقررة لمتعة الطلاق والنفقة بين الأقارب..

ـ أنها قاصرة على تفسير النصوص الجزئية، ولا تشمل النصوص الكلية التي لها معان عقلية وليست لغوية.

ـ ملابسات وقائع الحياة والعلاقات الاجتماعية التي تتعين مراعاتها قبل إصدار الرأي متشعبة ومرتبطة بمعارف ومعلومات مختلفة، لذلك يصعب على الفرد الواحـد أن يحيط بها ويستحضرها جميعها في تبرير إصدار فتواه().

ج ـ المبالغة في تكييف الرأي الذي يصل إليه "المجتهد":

إضفاء صفة "الحكم الشرعي الواجب التطبيق" على رأي المجتهد كانت فيه مبالغة واضحة لا يبدو لها أساس سليم فضلا عن كونها غير مأمونة العواقب:

- غياب الأساس السليم نجده في عدم ملاءمة هذا التكييف مع شريعة.

الإسلام التي يؤمن بها عشرات الملايين في مشارق الأرض ومغاربها والقائمة على التكليف الشخصي بأحكامها التي يرجع أغلبها إلى نصوص مرنة الدلالة وأحيانا ظنية الثبوت (السنة) كذلك. فهذه العناصر يصعب معها تبرير إضفاء صفة حكم الشريعة الملزم لكل المسلمين على رأي فرد واحد في تفسير النصوص وتأويلها.

- وهي غير مأمونة العواقب لأن صفة المجتهد غير مضبوطة عمليا والنصوص موضوع الاجتهاد تحتمل أكثر من معنى، فالنتيجة حتما هي تكاثر المجتهدين وتشعب الآراء وتعدد "حكم الشريعة" للواقعة الواحدة، وهذا ما حدث فعلا وتمت محاولة الحد من سلبياته بتجميد الاجتهاد وفرض المذهبية.

د ـ "تغييب" الأمة عن التقرير:

أهم ثغرة كانت -وما تزال- في بناء أصول الفقه هي تغييب الأمة عن صلاحية التقرير في تفسير نصوص الشريعة وتطبيقها.

فتعذر الضبط العملي لشروط المجتهد، والتعدد الحتمي لآراء المجتهدين واختلافها، لا سبيل لتفادي سلبياتها إلا باعتبار تفسير المجتهد للنص رأيا شخصيا غير ملزم لأحد وتخويل الأمة صلاحية التقرير في الآراء المدلى بها باختيار الرأي الذي تراه أكثر ملاءمة لنصوص الشريعة ومبادئها وإضفاء صفة التطبيق الإلزامي عليه.()

وعدم تدارك هذه الثغرة أدى إلى ما يمكن وصفه اليوم بالكارثة التي تعيشها المجتمعات الإسلامية الناتجة عن ثقافة:

ـ تلقي "فتاوى" مؤسسة على آراء شاذة أو نصوص معزولة عن السياق أو عن بقية النصوص باعتبارها "أحكاما شرعية" لأنها صدرت ممن ينتسب إلى "العلماء" الذين ترسخ الاعتقاد بأنهم جميعهم ينطقون باسم الشريعة.

ـ اعتبار كل ما تقرره الأمة عن طريق مؤسساتها الدستورية "قانونا وضعيا" لا علاقة له بوصف "الأحكام الشرعية" أيا كان مضمونه ومحتواه.

وما نعيشه من نتائج هذه الثقافة نعتقد أنه جدير بوصف "الكارثة" فالوصف ليس فيه مبالغة، وإنما يستحثنا على العمل الجاد للإصلاح والتقويم.

ثالثاـ ما يميز بين المرحلتين:

من أهم ما يميز بين المرحلتين الأولى والثانية:

1 ـ فكرة "مجتهد" و"مقلد":

في المرحلة الأولى كانت الفكرة غائبة نهائيا فالأسئلة والأجوبة التي كانت تتم بين الصحابة أو التابعين لم تكن تتم من منطلق أن السائل مقلد والموجه إليه السؤال مجتهد وبالتالي يجب على الأول الالتزام بتنفيذ الجواب الذي يتلقاه من الثاني. وإنما كانت الأسئلة توجه:

ـ على أساس التشاور وتبادل الرأي كما كان يحدث بين كبار الصحابة.

ـ أو بدافع التفقه والرغبة في معرفة أحكام الدين ممن تظن به معرفة أكثر بهذه الأحكام، وهو ما كان يتم بين حديثي الدخول في الإسلام وساكني المناطق النائية وبين الراسخين في الإسلام والاحتكاك بنصوصه.

أما المرحلة الثانية فإن عمودها الفقري هي ثنائية المجتهد والمقلد، وعلى أساس أن رأي الأول "حكم شرعي" ملزم له وللثاني الذي يجب عليه تلقي الأحكام الشرعية من المجتهد ويمنع عليه الرجوع المباشر إلى نصوص الشريعة (الكتاب والسنة) واستخراج الأحكام منها.

2 ـ تكييف السوابق:

في المرحلة الأولى كانت السوابق المؤسسة على كليات الشريعة ومبادئها، لا تشكل "أحكاما شرعية" ملزمة للأجيال اللاحقة لا تجوز مخالفتها.

مثلا ولي الخليفة الأول بالبيعة، واختار هو طريق التعيين للخليفة الثاني، وهذا اختار وسيلة ثالثة لتولية الخليفة الثالث. ووضع أبو بكر (ض) نظاما لإنفاق أموال بيت المال، لم يرى عمر (ض) نفسه ملزما به وقرر نظاما آخر. بل حتى في الأحكام الجزئية تروى عن عمر (ض) قولته المشهورة "تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي".

وعلى النقيض من ذلك اعتبرت السوابق في المرحلة الثانية أحكاما شرعية ملزمة.

مثلا إلى اليوم يعرض في النظام السياسي الإسلامي أن الطرق الشرعية لتعيين الخليفة هي البيعة العامة، أو بيعة أهل الحل والعقد، أو التعيين من الخليفة السابق. وذلك تمسكا بسوابق تعيين الخلفاء الثلاثة الأولين باعتبارها الطرق التي حددها الشرع.

ومثال ثان أنه في بداية الدولة الإسلامية كانت هنالك فتوحات درت على بيت المال ما يغني عن فرض أداء ما على المسلمين، ولما جاءت المرحلة الثانية اعتبرت أن هذا هو حكم الإسلام النهائي وقررت أن موارد بيت المال تأتي كلها من "الكفار" وأن المسلم لا يفرض عليه الإسلام شيئا زائدا عن الزكاة التي تشكل مؤسسة مستقلة عن مؤسسة بيت المال، وهي المقولة التي ما تزال تلقن إلى اليوم باسم الشريعة رغم أن الموارد الآتية من الكفار انتهت تقريبا مع نهاية القرن الأول الهجري.()

وفي هذين المثلين كفاية لما ترتب عنهما من الجمود الفكري في النظامين السياسي والمالي وهما مصدر الاستقرار وعصب الحياة، والقطار الآمن للتطور.

الفقرة الثانية:

الــواقــع الحــالــي.

من المؤكد وجود شبه إجماع على الاعتراف بوجود الخلل في تفسير نصوص الشريعة وتطبيقها وضرورة العمل على إصلاحه وفي هذا المجال يمكن التمييز بين توجهين يختلفان في تصور مفهوم الإصلاح ووسائله، ومع ذلك يجمعهما التنكر لدور المجتمع في تحديد مفهوم الإصلاح وتقريره، فكلاهما يناقش الموضوع في الدائرة الضيقة لطائفته أو شيعته ولا يثير إطلاقا موقف المجتمع من المقترحات المقدمة رغم أن الإصلاح شأن عام يجب أن يقرر فيه المجتمع وليس طائفة منه أيا كانت الصفة التي انتحلتها.

ونعرض بإيجاز هذه التصورين:

أولا ــ التصور القائم على "الاجتهاد" بمواصفاته الأساسية في أصول الفقه:

هذا التصور تتبناه أكثرية "العلماء والفقهاء" المتخصصين في الدراسات الإسلامية، ومؤداه أن الخلل المتمثل في شعور الناس بالابتعاد عن تطبيق "أحكام الشريعة" وفي ظهور الفتاوى والأفكار الشاذة باسم الإسلام يمكن علاجه بإحياء الاجتهاد الذي يقدم للمجتمع الإسلامي أحكام شريعته في ظل كلياتها وقيمها العليا المرتبط تطبيقها بالتكييف الذي تحدده ظروف الزمن والمكان لكل واقعة من وقائع الحياة المتجددة.

وقدمت عدة اقتراحات للاجتهاد القادر على تحقيق الهدف المرغوب فيه. ونعتقد أن الاقتراحات كلها لا تتجاوز بعض الجوانب الشكلية التي طرحت وبتصورات نظرية عصية عن التطبيق العملي. وأغفلت فيما يبدو العناصر الجوهرية المحققة للإصلاح المنشود.

فأهم ما أثير حول الاجتهاد يتعلق بالدعوة إلى تجاوز الاجتهاد الفردي، وتعويضه باجتهاد جماعي في حدود كل دولة، أو على مستوى العالم الإسلامي كله. والجماعة التي تسند إليها المهمة تتشكل من كبار العلماء، أو من هؤلاء ومن "متخصصين" في مختلف فروع المعرفة.

كما كثر الحديث عن ضرورة اعتماد الاجتهاد على مقاصد الشريعة بما تتسم بها من عمومية تساعد على استخراج الأحكام منها لجميع العلاقات ومرافق المجتمع الحديث.

وهذه المقترحات التي لا تمس الجوهر كما سنرى غير قابلة للتطبيق وهو ما يؤكده بقاؤها مجرد حبر على الأوراق التي كتبت عليها طيلة قرن من الزمن.

وفي مقدمة ما يحول دون التطبيق:

ـ مشكل تحديد لائحة من يسند إليهم الاجتهاد من العلماء أو كبارهم واستبعاد سواهم من بقية العلماء الذين يمنعون من إبداء آرائهم أو تهدر وإن أبدوها. ونفس المشكل يثور بالنسبة للمتخصصين من غير العلماء.

ـ الواقع الدستوري المنظم لسلطة التشريع في كل بلد إسلامي، والذي يبدو من المستحيل إلغاؤه بجرة قلم وإقناع الناس بالتخلي عنه وإسناد التشريع إلى نخبة ثقافية واعتبار كل من عداها كما مهملا يتلقى ولا يشارك ولا يناقش.

ومن ناحية ثانية يتعين التنبيه إلى أن الاجتهاد الذي يتحمس الجميع للدعوة إليه لا يمارس عمليا حتى من رواد هذه الدعوة.

وإذا تعذر الاجتهاد الجماعي المقترح بمختلف صوره() فإن الاجتهاد الفردي التقليدي بدوره لم يمارس، ولا يعترف به حتى الداعون إليه أنفسهم.

فالتكوين الموجود في جميع مؤسسات التعليم وبدون استثناء قائم على تعريف الفقه الإسلامي بإضافته إلى مذاهبه المؤسسة قبل ثلاثة عشر قرنا، وأن كل ما أنتج طيلة هذه القرون لم يتجاوز شروحا وتفريعات لآراء مؤسس المذهب. فثقافة الفقه المذهبي تعني أن العالم الإسلامي ولا سيما السني منه ـ لم ينتج منذ النصف الأول من القرن الثالث عالما واحدا توفرت فيه شروط "المجتهد المطلق" باصطلاح علم أصول الفقه، يضاف إلى ذلك الاعتقاد السائد بأفضلية الأولين عن الأخيرين علما وتدينا.

هذا ما أوقع علماءنا المعاصرين بين داعيين متناقضين:

ـ قصور الفقه القديم عن علاج علاقات ومرافق جديدة في حياة المجتمع يفرض الدعوة إلى الاجتهاد باعتباره الوسيلة "الشرعية" لتدارك هذا القصور.

ـ تهيب "مخالفة" اجتهاد السلف الصالح وعدم الاطمئنان إلى العلم والتدين المؤهلين للاجتهاد لدى المعاصرين، يعيقان ممارسة الاجتهاد، وكذا الاعتراف به للآخرين.

ويتأكد اقتصار الأمر على الدعوة إلى الاجتهاد دون ممارسته من فحص مقالات ومؤلفات الفقهاء طيلة القرن العشرين في الفقه الإسلامي، حيث نجدها تعرض أحكامه المروية في كل مذهب من المذاهب التي يخصص لها الكاتب مقالته أو كتابه حتى ما أصبح من تلك الأحكام غير قابل للتطبيق، وقد يبدي الكاتب رأيا شخصيا مخالفا في حالات قليلة جدا، ولكن آراءه هذه لن يدمجها أحد ضمن أحكام الفقه الإسلامي مثلما ما فعل هو عندما لم يدمج في هذا الفقه الآراء التي أبداها غيره من فقهاء القرن العشرين فهنالك ثقافة عامة صارمة تحصر مضمون "الفقه الإسلامي" في الآراء المذهبية الموثقة قبل نهاية القرن الثالث عشر الهجري تقريبا. لذلك فإن الدعوة إلى الاجتهاد ما تزال حبيسة التنظير والخطابة بعيدة عن التطبيق والممارسة.

ثانياـ تصور التيارات والفتاوى التي يتقمص أصحابها صفة المرشد المنقذ من الضلال:

استيلاء الغرب على البلاد الإسلامية وما رافقه من ظلم واستفزاز، أفرزا ردات فعل متعددة يهمنا منها الآن الرد الذي ركز على ربط الهزيمة بالابتعاد عن أحكام الدين حيث انتهى الآخذون به إلى الانقسام إلى تيارات وجماعات تؤمن كل واحدة منها بأن آراءها حول مجموعة من السلوكات والتصرفات() هي الأحكام الصحيحة للإسلام وما عداه ضلال تجب مقاومته بالإرشاد والحسنى عند البعض وبالزجر والعنف عند البعض الآخر، وإن كانت هذه الآراء لا تتعدى كونها تفسيرا لنصوص الشريعة. توجد إلى جانبه تفسيرات أخرى في الفقه القديم أو في الفقه الحديث.

وبعبارة أخرى يتلخص الإصلاح عند هذه الجماعات في إرجاع المجتمع إلى الإسلام الصحيح، والإسلام الصحيح في نظر أعضاء كل جماعة هو ما حدده الشيخ المؤسس وحواريوه، فالانضمام إلى الجماعة يتم عن طريق "البيعة" التي من مستلزماتها الطاعة والتنفيذ. والبيعة لا تتم إلا بعد الاقتناع بأن المبايع على حق() وأنه يدعو إلى الصراط المستقيم الذي ما بعده إلا الضلال.

وهذا التكوين العقدي هو الذي يغرس في ذهن عضو الجماعة الاعتقاد بأن كل الخارجين عن جماعته في ضلال مبين، وأن واجبه الديني يفرض عليه القيام بإرشاد الضالين وتقويم سلوك المنحرفين بالجهاد الذي «أول مراتبه إنكار بالقلب، وأعلاها القتال في سبيل الله وبين ذلك جهاد اللسان، والقلم، واليد، وكلمة الحق عند السلطان الجائر، ولا تحيا الدعوة إلى بالجهاد وبقدر سمو الدعوة وسعة أفقها تكون عظمة الجهاد في سبيلها وضخامة الثمن الذي يطلب لتأييدها وجزالة الثواب للعاملين وجاهدوا في الله حق جهاده».

إذا كان غياب الممارسة الفعلية للاجتهاد جرد الدعوة إليها من ثمارها، فإن عدم تحقق الإصلاح() عن طريق جمعيات الدعوة والإرشاد يرجع في اعتقادنا إلى طبيعة العقيدة التي تلقن للاتباع والمريدين ومن أسسها:

ـ التعاليم التي تمت البيعة عليها هي وحدها الحق المبين وكل ما يخالفها ضلال وانحراف عن الصراط المستقيم.

ـ المجتمع ضال ومارق من دينه لذلك ينادى أفراده: «يا قومنا إننا نناديكم والقرآن في يميننا والسنة في شمالنا، وعمل الصالحين من أبناء هذه الأمة قدوتنا، وندعوكم إلى الإسلام وأحكام الإسلام، وهدى الإسلام».

ـ الحكومة لا تكون إسلامية إلا إذا "كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير متجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه، ولا بأس بأن تستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة ... فإذا قصرت فالنصح والإرشاد ثم الخلع والإبعاد".

ـ غير المسلمين: «ذمي، أو معاهد، أو محارب، ولكل حكمه في ميزان الإسلام».

ـ الدخول إلى الجماعة يتم عن طريق المبايعة على:

    الجهاد «وأول مراتبه إنكار القلب وأعلاها القتال في سبيل الله وبين ذلك جهاد اللسان والقلم واليد».

    والطاعة «امتثال الأمر وإنفاذه توا في العسر واليسر والمنشط والمكره».

    والثقة وهي «اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئنانا عميقا» يؤدي إلى اعتبار «الأوامر التي تصدر إليه من القيادة قاطعة لا مجال فيها للجدل، ولا للتردد، ولا للانتقاص ولا للتحوير... وان يفرض في نفسه الخطأ وفي القيادة الصواب إذا تعارض ما أمر به مع ما تعلم في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص شرعي».. إلى آخر القائمة الطويلة من المبادئ الصارمة وأوراد التربية والإعداد.

اختيار هذا الأسلوب للإصلاح ترتبت عنه نتيجتان بارزتان:

الأولى: المبالغة في التفسير الحرفي للتعاليم أدى بطائفة من قرائها إلى استعمال العنف ضد الأفراد وضد المجتمع باسم الجهاد وتغيير المنكر.

والثانية: زرع الحذر والخوف لدى طوائف من المجتمع ولدى جهاز الدولة ذاته، أفرز مناوشات وصدامات استهلكت قسطا غير يسير من طاقات الأمة ووقتها لو أنفق فيما ينفع لتبدلت الأرض غير الأرض وتحول الخوف أمنا.

لكن إذا كان كل من التوجهين اللذين سبق عرضهما لم يحقق الإصلاح المطلوب فما السبيل؟.
هذا ما نحاول المساهمة في البحث عنه في الفقرة الموالية.
الفقرة الثالثة:

معالم «النظام» المرغوب فيه للتفسير والتطبيق

المسلمون جميعا يرغبون في تطبيق شريعتهم، لأن الإيمان بأية عقيدة يفرض حتما الإيمان بالالتزام بأحكامها في السلوك، وإلا كان الانتساب إليها سطحيا أو نفاقا.

والتطبيق مرتبط بالتفسير باعتبار أن الأغلبية المطلقة من النصوص الجزئية المتعلقة بالسلوك الاجتماعي تحتمل أكثر من معنى، كما أن النصوص الكلية يرتبط تطبيقها على كل واقعة من وقائع الحياة بالعناصر المؤثرة في تكييفها، وهو ما تتفاوت فيه الأفهام وتتباين بشأنه عناصر التحليل.

التفسير إذن هو المشكل وهو الحل لما يعيشه المسلمون اليوم من إفراط في القول وعجز عن العمل، وتنافر في الآراء ترتب عنه التناحر وتشويه صورة الإسلام دينا وعقيدة.

التفسير هو مصدر كل هذه المشاكل إذا غاب عنه "النظام" وتحكمت فيه الفوضى، وهو الحل لها متى ضبط "بنظام" يتفق عليه المجتمع ويحترمه.

للقارئ أن يقول: ألم يضع الإمام الشافعي رحمه الله في القرن الثاني "نظاما" لتفسير النصوص ما يزال يقدم إلى الآن في مؤسساتنا التعليمية بعنوان "أصول الفقه"؟.

الجواب نعم. لكن ذلك "النظام" كان في حاجة إلى تدارك ثغراته التي أفرزها التطبيق وفي مقدمتها:

ــ إسناد التفسير إلى فرد (المجتهد)، وهو ما يؤدي قطعا إلى تعدد الآراء التي لا وسيلة لتحصينها من الآراء الشاذة.
ــ رأي المجتهد هو حكم الشريعة الملزم لكل المسلمين الذين لم يصلوا إلى درجة الاجتهاد.
ــ رأي المجتهد غير قابل للمراجعة والإلغاء نتيجة تغير ظروف الزمن والمكان أي إنه حكم يمكن أن يخالف من مجتهد ثان لكنه غير قابل لإعلان إلغائه وإحلال حكم آخر محله أبدا.
حاول الأقدمون تفادي بعض سلبيات هذه الثغرات بفرض المذهبية وإنهاء الاجتهاد، لكن واقعنا الحالي لا يعالجه منع الاجتهاد، ولا تطبيقه بالمواصفات التي يحددها له أصول الفقه. وإنما يفرض البحث عن "نظام" للتفسير قادر على تحقيق الاستقرار وتوفير وسائل مواصلة الحياة والبناء.

ولعل من أهم معالم هذا "النظام":

أولا ــ اعتماد التفسير على قواعده المفصلة في أصول الفقه:

قواعد التفسير التي وضعها الأصوليون تساعد على الفهم السليم، وعلى الوقاية من الانزلاق إلى الفوضى والشذوذ في الفكر.

ولا يضر الاختلاف بشأن بعض تلك القواعد، فكل مفسر يعتمد ما يراه منها مقبولا ويستبعد ما اقتنع بعدم صحته.

صحيح أن قواعد التفسير الأصولية مرشدة ومستأنس بها ولا تفرض النتيجة كما تفعل المقدمات المنطقية، والمعادلات الرياضية. ولكن مع ذلك لا يمكن الاستغناء عنها وإلا فقد التفسير مفهومه العلمي والعقلي معا.

ثانيا ــ إحلال مبررات الرأي محل شروط المجتهد:
المناقشات التي استمرت قرونا حول شروط المجتهد لم تنتج شيئا في الحياة العملية لسببين أساسيين:

الأول: استحالة التحديد الفعلي لمضمون كل شرط سواء تعلق بحجم المعرفة الخاصة بكل نوع من أنواع المعارف التي يذكرها الأصوليون، أو بمفاهيم: التدين، والاستقامة، والقدرة على "عقل المعاني" كما يقول الشافعي ... إلى آخر قائمة الأوصاف المطلوبة.

والثاني: غياب من يملك صلاحية إصدار الحكم الملزم بتوفر تلك الشروط أو عدم توفرها في هذا الشخص أو ذاك.

فهل من الحكمة الاستمرار في هذه المناقشات؟

نعتقد أن المفيد هو التركيز على مبررات الرأي وما بني عليه من أسس مقنعة أو العكس، فالذي لا يملك المؤهلات يتعذر عليه إيجاد الحجج المرجحة لرأيه وأخرى تفند أو تضعف الرأي المخالف.

فما يتعين الالتزام به في ممارسة التفسير هو أولا مناقشة الرأي والآراء المخالفة، وثانيا بناء الرأي الشخصي على أسس معقولة وكل ذلك بأسلوب يحكمه المنطق وتضبطه الموضوعية. ومقابل ذلك التخلي عن "الفتاوى" التي تصاغ بأسلوب الإخبار والتبليغ ولغة الجزم والقطع بالتحريم أو التحليل، والمنع أو الإباحة دون إشارة إلى الآراء الأخرى، ولا اكتراث ببيان المؤيدات التي رجحت الرأي المفتى به.

ثالثا ــ مؤيدات الرأي يجب أن يدركها المفسر:

كل تنظيم للمجتمع وللعلاقات بين أفراده، يتكون من مبادئ ثابتة، ومن أحكام جزئية متغيرة مع ظروف الواقع وملابساته، وأحكام الشريعة لا تشذ عن هذه السنة التي تنتظم بها حياة الإنسان على الأرض.

مثلا إقامة سلطة سياسية لاستتباب الأمن، وسلطة قضائية يلجأ إليها كل من وقع الاعتداء على حق من حقوقه، ووجوب إثبات هذا الاعتداء، وحرية التعاقد مع شرط الأهلية وحق الفرد في التصرف في ملكه وفي التنقل وممارسة العمل أو المهنة التي يرغب فيها... الخ ـ مبادئ وجدت منذ كان للإنسان "مجتمع" وما تزال سارية وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

لكن تفاصيل تطبيق تلك المبادئ تتغير باستمرار وهو ما لا يحتاج إلى استدلال ومناقشة.

لذلك إذا كان على المفسر (أو المجتهد بالتعبير الأصولي) في القرن الواحد والعشرين أن يلم بالتراث الفقهي وآراء السابقين، فإنه ملزم إلى جانب ذلك بمراعاة ظروف الواقع الذي يقدم رأيه ليطبق فيه.

صحيح أن كثيرا من الأحكام الفقهية المذهبية ما تزال قابلة للتطبيق، ولكنه صحيح كذلك أن كثيرا منها لم يعد يمثل أحكام شريعة الإسلام في الواقع المعيش. ونكتفي بأمثلة محدودة تفاديا للإطالة المملة:

  ـ النظام السياسي والدستوري اللذان تطورا كثيرا في المجتمع الحديث عما كتبه الماوردي وأمثاله في الموضوع.

  ـ النظام المالي الذي يقول فيه الفقه إن موارد بيت المال تأتي كلها من "الكفار"، وإن الشريعة لا تفرض على المسلم أداء شيء من ماله غير الزكاة.

  ـ اعتبار جميع المصالح والمرافق العامة للمجتمع "فروض كفاية" يخاطب بها الأفراد عامة إن قام بها البعض سقط عن الجميع وإن لم يقم بها أحد أثموا كلهم واستحقوا العذاب في الآخرة.

فهل يعقل اليوم التشبث بمصطلح "فرض الكفاية" باسم "الفقه الإسلامي" ونقول مثلا: إن شق الطرق، وبناء السدود، والمطارات، وتوفير الماء والغذاء، والكهرباء، والمواصلات، إضافة إلى تعلم جميع العلوم والصناعات، والبحث العلمي، وتشييد المدارس والجامعات، والتخطيط الاقتصادي ـ كل هذه المصالح وغيرها كثير، يخاطب الأفراد بإنجازها، وإذا لم يقم بها أحد منهم أثم الجميع ونالوا الجزاء في الآخرة ؟!.()

  ـ إجراءات التقاضي، ووسائل الإثبات، وأنظمة الشركات، وسائر أنواع العقود... يتطلب تنظيمها اليوم أحكاما كثيرة مخالفة أو زائدة عما أورده الفقه بشأنها.

  ـ تقسيم غير المسلمين في أنحاء الأرض كلها إلى فئات: ذميين، ومعاهدين، ومحاربين، مع الأحكام الخاصة بكل فئة منهم. وأن "الغنائم" هي رجال الكفار ونساؤهم وصبيانهم وأموالهم وأرضهم وأطعمتهم وأشربتهم... «متى أخذ منهم ذلك على وجه الغلبة، ويجري مجراه ما أخذ على وجه السرقة والاختلاس».

لعل في هذه الأمثلة كفاية للقول بأن الرأي يجب أن يعتمد على "تفسير معلل" يقوم به صاحبه في ظل الواقع الذي يعيشه وليس الاكتفاء بالاستناد فيه إلى حكاية آراء كانت متأثرة بالظروف المحيطة بها وغدت الآن متجاوزة.

رابعا ــ التفسير ينتج "رأيا شخصيا" لصاحبه ولا ينتج "حكم الشريعة الملزم":

يجمع الأصوليون على أن الحكم الاجتهادي هو حكم "ظني" لأن المجتهد يعبر به عما ترجح لديه من النص أو النصوص الظنية الدلالة أو الورود والتي تحتمل أكثر من تفسير. ولذلك فإن الحكم الذي يعلنه المجتهد هو تفسير شخصي للنص ولا يتجاوز هذا الوصف إلى حكم الشريعة الملزم للجميع.

يمكن أن يثار بأن أحكام الشريعة الملزمة التي تؤخذ من النصوص الظنية الدلالة أو الورود كلها ظنية فلماذا لا يعتبر اجتهاد الفرد حكما شرعيا ملزما؟.

الجواب على السؤال يمكن تلخيصه في أن الحكم الاجتهادي:

- قد يتعلق بسلوك شخصي ولا تتدخل فيه القواعد المنظمة للتعايش الاجتماعي (القانون) مثل إباحة أو تحريم الحيوانات والطيور المختلف في إباحتها وأغلبية هذه الأحكام تتعلق بالعبادات والأخلاق ويأخذ منها الفرد بالرأي الذي توصل إليه هو أو قلد فيه غيره ، ويعتبر بالنسبة إليه حكم الشريعة الملزم بصرف النظر عن الرأي أو الآراء الأخرى المخالفة.

- وقد يتعلق بعلاقات التعايش بين أفراد المجتمع أو مؤسساته أو بعلاقاته بالمجتمعات الأخرى. وهذا القسم هو الذي نقول عنه ان اجتهاد الفرد فيها لا ينتج إلا رأيا شخصيا ولا يوصف بحكم الشريعة الملزم لأنه من ناحية، آراء الأفراد تتعدد وفي إضفاء وصف أحكام الشريعة عليها كلها دعوة صريحة إلى انفراط عقد النظام والانحدار إلى الفوضى، ولعل في "الفتاوى الشرعية" التي توزع اليوم بكل وسائل التواصل تأييد لما ذهبنا إليه.

ومن ناحية ثانية لم يقل أحد بأن الأمة ملزمة برأي فرد منها في تفسيره النصوص التي تحتمل أكثر من معنى.

خامسا ــ إسناد التقرير إلى الأمة:

الخلل الحالي الذي نشكو منه فيما ينسب إلى الإسلام من أحكام وأفكار هو منها بريء، لا يمكن إصلاحه إلا بتجريد الآراء الفردية من صفة "الأحكام الشرعية الملزمة" واعتبارها تفسيرات شخصية للنصوص، وتخويل الأمة() وحدها سلطة مناقشة الآراء المدلى بها وتقرير ما تراه منها جديرا بالتطبيق بوصفه حكما مأخوذا من نصوص الشريعة، أولا يتعارض معها.

والطرق التي تقرر بها الأمة وتعبر بها عن إرادتها قد تختلف في تفاصيلها من دولة إسلامية إلى أخرى، ولكن جوهرها يتحقق في المؤسسات التمثيلية التي قطعت اليوم في العالم الإسلامي شوطا لا بأس به في المصداقية والاقتراب من التعبير عن الإرادة العامة.

ولا يبدو وجود بديل يغني عن المؤسسات التمثيلية في تقرير الأحكام المنظمة للمجتمع، نعم، يجب إيلاء الجهد الممكن فكرا وممارسة لتحسين أدائها لوظيفتها التمثيلية وفي مقدمة الوسائل التي تحقق ذلك القضاء على الأمية بنشر التعليم الذي يمكن المواطن من الوعي بحقوقه وواجباته ومن الحرص على ممارسة الأولى وأداء الثانية.

سادسا ـ الأحكام المقررة عن طريق التفسير والاجتهاد قابلة للمراجعة باستمرار :

الأحكام الاجتهادية كما هو معروف ظنية، ولزمها هذا الوصف لأن كل حكم منها يأتي عن طريق ترجيحه من بين حكمين أو أكثر يحتملها النص أو تعليل الحكم.

كما أن الكثير من وقائع الحياة التي ينظمها القانون تتغير مع الزمن ملابساتها المؤثرة في الحكم، وأحيانا يكشف التطبيق عن عدم ملاءمة الحكم المأمور بتنفيذه.

والمجتمع الحديث بصورة خاصة تتطور أنظمته بشكل متسارع نتيجة التغير الدائب لمكونات حياته المعرفية والاقتصادية والاجتماعية.()

كل هذا يفرض الأخذ بمبدأ المراجعة سواء بالنسبة للرأي الاجتهادي الصادر عن الأفراد أو بالنسبة للأحكام الملزمة التي تقررها الأمة.

والمراجعة لا تتعارض مع مفهوم الالتزام بأحكام الشريعة، فهي لا تتناول الثوابت والمبادئ الكلية كالأمثلة التي سبقت الإشارة إليها، ولا الأحكام الجزئية الثابتة من النصوص قطعية الورود والدلالة، وإنما تقتصر على الأحكام الاجتهادية التي هي في جوهرها ظنية والصفة الظنية تتعارض مع منع المراجعة لأنها بذلك تنقل إلى الأحكام القطعية التي لا يطالها النقاش.

وبعبارة أخرى ظنية الحكم الاجتهادي تأتي من احتمال صياغة النص لأكثر من تفسير، أو من صلاحية الواقعة لتطبيق أكثر من نص أو مبدأ كلي عليها، أو من قبولها اختلاف العلة التي يبنى عليها الحكم، فضلا عن صعوبة الترجيح بين المصلحة والمفسدة في كثير من الأحيان.()

نتجاوز الجدل النظري إلى الواقع الذي نعيشه جميعا هل نتصور وضع تنظيم لإجراءات التقاضي، أو للشركات، أو لعقدي الكراء والنقل، أو للوظيفة العمومية أو للضرائب... تكون كل أحكامه دائمة غير قابلة للمراجعة والتعديل؟ نعتقد أن الجواب عن السؤال يغني عن الاسترسال في الحديث.

خلاصة

يمكن تلخيص ما سبق في الأفكار الآتية:

1) إنهاء الفوضى القائمة في مجال الحديث والتقرير باسم الإسلام، بوضع "نظام" للتفسير والتقرير تنضبط به أحكام الشريعة، ويحمي استقرار المجتمعات الإسلامية ليوجهوا طاقاتهم الفكرية والمادية إلى البناء والمساهمة في حضارة الإنسان وترشيدها.
هذا "النظام" تضعه الأمة، وتلقنه لأبنائها في المدرسة باعتباره من ثوابت استقرار التعايش، فيكبرون وهم مؤمنون باحترامه وتطبيقه.

2) "النظام" الذي أسسه الإمام الشافعي رحمه الله إن كان ما يزال صالحا في جزئه الخاص بضرورة الالتزام بضوابط يسترشد بها في تفسير النصوص وبالأخص الجزئية منها، فإنه في باقي الأجزاء الأخرى لم يبق قادرا على علاج الخلل الذي عم المسلمين جميعا في فهم العلاقة بين الدين والدنيا.

3) أشرنا في الفقرة الأخيرة إلى فكر ستة نعتقد أنها تشكل "معالم" يمكن أن تبني "نظاما" لتفسير نصوص الشريعة ينهي وضعية التفتت والتنابذ بين المؤمنين بكتاب واحد يتناحرون ويخربون بيوتهم بأيديهم.

4) ما قلناه يحتاج إلى تعميق تحليله، وإلى إضافات وهو ما نتمناه من القارئ الكريم، وهنالك بالتأكيد كثيرون سيعتبرون ما كتبته أفكارا شاردة وربما منكرا كبيرا ... ومن هؤلاء أرجو بيان وجهة نظرهم بأسلوب الاستدلال والإقناع، وتقديم البديل المفيد القابل للتطبيق، أما الاكتفاء بأسلوب التشكيك والقذف، والتنظير الخيالي الذي لا صلة له بالواقع فقد استمرا طيلة القرن العشرين وإلى الآن ولم ينتجا شيئا إيجابيا، أفلم يان الأوان لأخذ العبرة من أخطائنا، والتعاون على العمل الجدي المنتج؟. والله نسأل الهداية إلى سبيل الرشاد.