حقوق الرجل والمرأة بين الرؤية الإسلامية والرؤية السائدة في ثقافة المجتمع الإسلامي

magazine slogan

حقوق الرجل والمرأة  بين الرؤية الإسلامية
والرؤية السائدة في ثقافة المجتمع الإسلامي

الدكتور أحمد الخمليشي
دار الحديث الحسنية ،  الرباط

تقديم:

  أود الإشارة في هذا التقديم إلى أمرين اثنين، الأول: العبارة التي تستعمل كثيرا وهي: «الرؤية الثقافية الإسلامية»، والثاني: مؤشرات عن حقوق الرجل والمرأة وقت نزول الرسالة.

1 –  عبارة " الرؤية الثقافية الإسلامية":
  حسب فهمي الشخصي، العبارة في حاجة إلى توضيح، باعتبار أن وجود رؤية لقضايا حقوق الإنسان تجمع وصفين: "ثقافية إسلامية" يبدو محل نقاش.
  فالرؤية "الثقافية" تعني التصورات التي تشكلت وترسخت في فكر وفهم المجتمع الإسلامي لحقوق الإنسان ويمارسها في سلوك أفراده وأنظمته الاجتماعية.
  بينما الرؤية الإسلامية تضبطها نصوص الوحي بالتفسير الذي يعطيه المجتمع لهذه النصوص متأثرا بظروف واقعه، وملابسات العلاقات بين أفراده ومع الآخرين. وبحكم تغير هذه الظروف والملابسات فإن التغيير يجب أن يلاحقها كي يستحق ما ينتهي إليه هذا التغيير صفة "رؤية إسلامية" لقضايا حقوق الإنسان.
  وفي الواقع الذي نعيشه، أزعم أن الرؤية الثقافية لحقوق الإنسان في المجتمع الإسلامي تختلف في قضايا كثيرة عن الرؤية الإسلامية لتلك الحقوق. والسبب هو أن الرؤية الثقافية الحالية هي مجرد امتداد للرؤية الناتجة عن التفسير الذي أضفى على نصوص الوحي في ظروف "وثقافة" المجتمع منذ قرابة أربعة عشر قرنا.
  إن الإنسان أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، ثم بعد أن بلغ أهلية التكليف تعاقبت رسالات السماء في إرشاده وتوجيهه إلى أن انتهت بالرسالة الخاتمة، لكن تطور الإنسان لم يتوقف، بل إن الرسالة الخاتمة فتحت له أفاق التطور بلا حدود لما أمرته باستعمال عقله وفكره لإدراك ملكوت السماوات والأرض المسخرة له.
  وسنة التطور تؤدي قطعا إلى اتساع مؤسسات المجتمع، وتنوع علاقات أفراده، وإلى تنامي الوعي الاجتماعي ووعي الفرد بمركزه بين بني جنسه وما "حقوق الإنسان" إلا الاستجابة لهذا الوعي في تنظيم تلك المؤسسات والعلاقات.
لذلك إذا أردنا البحث عن الرؤية الإسلامية لقضايا حقوق الإنسان، وجب القيام بقراءة شاملة لنصوص الشريعة وتفسيرها انطلاقا من مراعاة مآلات هذا التفسير في ظل الواقع المعيش وملابساته.
وما قلته عن وجود اختلاف بين الرؤية الثقافية في المجتمع الإسلامي لقضايا حقوق الإنسان، وبين الرؤية الإسلامية لهذه الحقوق، ليس مجرد ادعاء ورمي بالقول من غير روية، وإنما هو واقع أكيد. سأحاول بيانه فيما يلي:
2 –  مؤشرات عن حقوق الرجل والمرأة وقت نزول الرسالة :
  من البدهي أن تنظيم "حقوق الإنسان" يعكسها تنظيم العلاقات الاجتماعية الذي تتحكم في مكوناته ثقافة المجتمع، وتركيبات معتقداته ونظرته إلى الحياة والوجود وما ورثه من الآباء والأجداد من تقاليد وأعراف يرى فيها هويته، والنموذج الأمثل لبلوغ الكمال.
  فما هي الأسس والمؤشرات التي كانت تقوم عليها العلاقات الاجتماعية  وقواعد تنظيمها؟
  يمكن تلخيص هذه الأسس في:
    1. نظام "السادة" و"العبيد".
    2. ذوبان الفرد بكل مقوماته في العشيرة والقبيلة ضمن ما يسودهما من تراتبية صارمة، وتضامن لا محدود في الغنم والغرم الماديين والمعنويين.
    1. التكاليف الأساسية للانتماء إلى العشيرة أو القبيلة تتمثل في الذود عن مناعتها وصيانة عزتها والبسالة في الكر والفر ومنازلة الأعداء، والعجز عن أداء هذه التكاليف يقابله الحرمان من الحقوق. والمرأة لا تحمل سيفا، ولا تبارز فارسا.

كتب القتل والقتال علينا          وعلى الغانيات جر الذيول

إذ للعجز ضريبة، وللحماية ثمن، والثمن هو انفراد الرجل بالتقرير:
    1. التقرير في الشؤون والمصالح العامة للعشيرة أو القبيلة.
    1. التقرير في الحقوق الشخصية للمرأة بحرمانها منها نهائيا، أو بممارستها في الحدود التي رسمها لها، ومما يتجلى فيه ذلك:
    1. ضبط علاقاتها وحركاتها اليومية: الاتصال مع الغير، متى؟ وأين؟ وكيف تخرج من بيت أبيها أو زجها؟
    2. الحرمان من التعليم ومن الإرث وباقي الحقوق الاقتصادية.
    3. تحكم الأقارب وانفرادهم بالتقرير في أمر زواجها باسم المحافظة على مصالح العشيرة وصيانة سمعتها.
    4. فرض "الطاعة" عليها أثناء العلاقة الزوجية دفاعا عن العرض والشرف، وهو ما يخول الزوج استعمال العنف لردعها عن كل سلوك أو تصرف يرى فيه عصيانا لأوامره وتجاوزا للحدود التي يمنع عليها اقتحامها.
    5. خول الرجل نفسه الاستقلال بإبقاء العلاقة الزوجية أو إنهائها متى شاء لسبب أو دون سبب، وبالصيغة والعدد الذي يحلو له، فله أن يحرمها عليه نهائيا، أو يبينها منه، أو يبقيها في متناول سلطته يرغمها على الرجوع إليه متى أراد داخل فترة العدة.
    6. وله أن ينجز الطلاق أو يعلقه على فعل إنسان أو حيوان أو حادث طبيعي، بل ينفذ طلاقه حتى إذا قال: "إن تزوجت فلانة فهي طالق"، أو "كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من قبيلة كذا فهي طالق".
    7. أما هي فلا كلام لها في إنهاء العلاقة الزوجية إلا إذا اشترت خلاصها بالمبلغ الذي يرتضيه الزوج عن طيب خاطر.
هذه الأحكام –وغيرها كثير- كانت نتيجة حتمية لنظرة المجتمع إلى وجود المرأة ذاته (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون).
بعد هذا التقديم نقسم الموضوع إلى فقرتين: الأولى للخطاب القرآني في موضوع حقوق المرأة، والثاني للتفسير الفقهي لهذا الخطاب، نستخلص منهما في النهاية نتيجة المقارنة المؤكدة لوجود اختلاف في حقوق الرجل والمرأة بين الرؤية الإسلامية، وبين الرؤية السائدة في ثقافة المجتمع الإسلامي.

الفقرة الأولى : الخطاب القرآني.
يبدو من المفيد تفريع الموضوع إلى المجال الاجتماعي والإنساني، والمجال الأسري.

الفرع الأول : المجال الاجتماعي والإنساني :

في هذا الجانب المرتبط بوصف "الإنسان" الذي يجتمع فيه الرجل والمرأة يمكن أن نؤكد على تقرير القرآن لمبدأ المساواة بين الجنسين: المساواة في:

أولا   - التكليف والمسئولية وتحمل الأمانة:

    1. (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى).
    2. (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مومن فأولئك يدخلون الجنة).
    3. (من عمل صالحا من ذكر أوأنثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة).
    4. (يوم تاتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون).
    5. (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تـــزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).
    6. (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان).
    7. (أيحسب الإنسان أن يترك سدى).
ثانيا -  المشاركة في إدارة وتوجيه المجتمع إلى الأفضل :
    8. (والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم).
ثالثا -  الأهلية الفطرية لأداء التزامات التكليف :
ويتجلى ذلك في ما أودعه الله الإنسان ذكرا أو أنثى من العقل وحواس الإدراك المساعدة على التمييز بين الخير والشر:
    1. (ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين، وهديناه النجدين).
    2. (خلق الإنسان علمه البيان).
    3. (الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم).
رابعا -  اكتساب الخبرة لإدارة المصالح الخاصة وممارسة الحقوق :
  يؤخذ ذلك من الآية السادسة من سورة النساء: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم … فإذا دفعتم إليهم أموالهم فاشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا).
فاليتيم يكون من الجنسين قطعا، فإذا بلغ أهلية الزواج بالنضوج الجنسي وأونس فيه الرشد والقدرة على تصريف شئونه، اكتسب "الأهلية المدنية" بالاصطلاح الحديث التي تخوله الاستقلال بإجراء كل التصرفات القانونية وممارسة حقوقه المدنية بمفهومها الواسع.
  كثيرا ما تثار استثناءات للتدليل على انعدام المساواة بين الرجل والمرأة. وما أريد التأكيد عليه هو أن الفقه في مجمله بالغ في الاستثناء من المساواة حتى كادت أن تصبح المساواة هي الاستثناء لا فرق في ذلك بين العلاقات الاجتماعية والعلاقات الأسرية.
  هناك حقيقة بدهية لا ينبغي إغفالها وهي أنه من النادر جدا وجود قاعدة قانونية لا استثناء فيها، فبالأحرى المبادئ الغارقة في العمومية مثل "المساواة".
من أهم ما يثار في الموضوع الذي نناقشه:
- الإرث :
موضوع الإرث يحتاج إلى تحليل مفصل، لكن مراعاة لملابسات تناوله أقتصر على إثارة الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: دور نظام النسب في الإرث:
  إن نظام النسب المتوارث له تأثير واضح على الإرث، فالذكر وحده هو الذي يحق له تلقي نسب أبيه، ونقله إلى عقبه، بينما الأنثى وإن تلقت نسب أبيها، لا تملك نقله إلى عقبها، وهذا يعني أن الولد الذكر هو الذي يحافظ على ذكرى آبائه وأجداده دون الأنثى، والإنسان مجبول على السعي بكل شيء لتخليد مآثره وفي مقدمتها الاسم والنسب الذي يحمله. وما قصر حق الإرث على الرجال دون النساء في الأنظمة الاجتماعية القديمة إلا تعبير عن الرغبة في انتقال مال الموروث إلى من يواصل المحافظة على نسبه وذكراه.
  ومما يرشد إلى هذه الملاحظة  في النظام الإسلامي للإرث، تساوي الرجل والمرأة إذا لم يكن للرجل فضل المحافظة على نسب الموروث مثل الأبوين مع الولد (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد)، والإخوة للأم (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد  وصية يوصي بها أو دين غير مضار، وصية من الله والله عليم حليم).
الملاحظة الثانية : دور نظامي الزواج والأسرة في الإرث :
  كل من نظامي الزواج والأسرة، يفرض انتقال البنت من بيت الأب والأسرة إلى بيت زوجها واندماجها في أسرته، وغالبا ما يتوفى أبوها أو قريبها وهي في هذه الأسرة. فكيف تستوي في إرث أبيها مع أخيها المستقر في بيت وأسرة هذا الأب؟
الملاحظة الثالثة : الوضعية الحقوقية للمال الذي يتركه المتوفى :

الأفكار الأساسية في الموضوع ثلاثة:

    1. انتقال ملكية المال إلى المجتمع وعدم الاعتراف بأي تصرف من المتوفى يحدد به مصير ما له بعد الوفاة، وهو الاتجاه الذي نادت به الشيوعية الماركسية.
    2. انتقال المال كله إلى القرابة حسب درجة قرابتهم أو اتباع بعض المقاييس، كالولد الأكبر، أو الذكور دون الإناث، أو بعد اقتطاع جزء منه برسم الضريبة أو الوصية من المتوفى.
    3. الاعتراف للمتوفى بحق الوصية بكل ما لديه لمن يريد.
والنظامان الأخيران هما السائدان قديما وحديثا، والخلاصة التي تستنتج منهما هي أن المال الذي يتركه المتوفى تتجاذبه ثلاثة عناصر أو جهات: المتوفى نفسه، وأقاربه، والذي يخلف المتوفى في رعاية الأسرة واستمرارها من هؤلاء الأقارب (الولد الأكبر مثلا). ولا يوجد –فيما نعلم- قانون يعتمد درجة القرابة وحدها ويستبعد كلية العنصرين الآخرين.
لذلك نعتقد –والله أعلم- أن توريث الولد الذكر ضعف ما ترثه البنت ليس مؤسسا على صفتي الذكورة والأنوثة مجردتين، وإنما مراعاة لمستلزمات الوصفين المرتبطة بالمحافظة على "حياة" الاسم و"استمرار" الذكرى. وهي رغبة أكيدة للمتوفى يثبتها الواقع الذي ما يزال إلى اليوم بارزا في حرمان المرأة من الإرث نهائيا، في مناطق غير قليلة من العالم الإسلامي، وأحيانا تمت الاستعانة على ذلك بفتاوى فقهية.
الملاحظة الرابعة : نظام الإرث لا يصادر إرادة صاحب المال.
ففي الحالات الـتي يـرى فيها الأب مثلا أن ابنته أو بـناته أحوج إلـى المال من أولاده الذكور -كحالات الصغر والإعاقة- يمكنه:
    1. أن يوصي للبنات بناء على الرأي الذي يقول بعدم النسخ لآية الوصية (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقا على المتقين).
    2. أو يهب بعض المال للبنت أو البنات في حياته.
الفرع الثاني: المجال الأسري.
من تتبع الآيات القرآنية المتعلقة بوضع المرأة وحقوقها داخل الأسرة، يمكن استنتاج المميزات الآتية:
أولا - مبادئ كلية وأحكام جزئية:
من النوع الأول هذه الآيات:
    1. (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهم درجة).
    2. (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان).
    3. (فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا).
    4. (وعاشروهن بالمعروف).
    5. (فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف).
    6. (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن).
ومن النوع الثاني:
    1. (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا).
    2. (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا، والصلح خير).
    3. الآيات التي تسند الطلاق والرجعة إلى الرجال دون ذكر للنساء في الموضوع ما عدا ما أشارت إليه الآية 229 من سورة البقرة من إمكانية "افتداء" الزوجة لنفسها بمقابل تسلمه للزوج إذا خيف إخلال الزوجين بأداء واجباتهما الزوجية المقررة شرعا.

ثانيا – التدرج في الأحكام.

إن الحساسية البالغة التي كانت تتسم بها علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع العربي، استدعت التدرج في تشريع بعض الأحكام المنصفة للمرأة، وهذا ما لا ينكره أحد، ومن الأمثلة على ذلك:

1) العقاب على الزنى، فقد وردت أولا الآيتان 15 و16 من سورة النساء:

(واللاتي ياتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم، فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا، واللذان ياتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا واصلحا فأعرضوا عنهما، إن الله كان توابا رحيما)

ثم نسخ هذا التفاوت في الجزاء بالآية الثانية من سورة النور: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة).

2) تقرير حق النساء في الإرث، ففي الأول جاءت آية (للـرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا)، ثم آيتا المواريث 11 و12 من سورة النساء.

3) تحديد عدة المتوفى عنها زوجها بسنة حسبما يقول الفقه، ثم بأربعة اشهر وعشرة أيام.

إذا استحضرنا هذا التدرج في التشريع أمكن فهم ما ورد في آيتي النشوز مع مثل آيات (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة)، (وعاشروهن بالمعروف)، (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن).

إن آيتي النشوز تبدوان متعارضتين مع هذه الآيات.

فنشوز الزوجة يخول الزوج السلطة المباشرة لإرغامها على الرجوع عن سلوكها ولو بالضرب والعنف من غير أن يطلب منه حق إثبات وجود النشوز.

ونشوز الزوج يفرض على الزوجة أن تعرض الصلح على زوجها الناشز ولو بتنازلها عن حقوقها لاسترضائه.

لذلك نعتقد –والله أعلم- أن الأمر بالضرب أو إباحته كان قبل تقرير مبدأ المماثلة في الحقوق والواجبات، فيعتبر هذا ناسخا له، وفي كل الأحوال، تطبيق "المعروف" المأمور به أكثر من عشرين مرة على علاقات الزوجية يؤدي قطعا إلى انتهاء إباحة الضرب، لأن قيم التعايش الاجتماعي الذي نحيى فيه يجعل قهر "الإنسان" بالعنف والضرب بعيدا عن "المعروف" بل هو "المنكر" ذاته الذي نهى الله عنه وكلف الأمة بهذا النهي في أكثر من عشر آيات.

ومثل ذلك يقال عن علاج نشوز الزوج عن طريق استرضائه من الزوجة بتنازلها عن حقوقها.

والنتيجة هي أن نشوز أي من الزوجين، يتعين أن يخضع لتدخل القضاء بتطبيق آية (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا) مع الأخذ في تطبيقها بالرأي الفقهي الذي يقول بوجوب بعث الحكمين متى حدث الشقاق، وبتوقيع الطلاق بعد العجز عن إصلاح ذات البين، وإلزام المخطئ من الزوجين بأداء شيء إلى الزوج الآخر، أو بدون إلزام أي منهما بالأداء، رضي بذلك الزوجان أم لا.

ثالثا – إخضاع العلاقات الأسرية للمعروف:

تكرر الأمر القرآني بـ "المعروف" في العلاقات الأسرية أربعا وعشرين مرة.

والتكرار يعني التأكيد على الإلزام بالتطبيق.

وإخضاع التنظيم الأسري للمعروف يبين طبيعته المتغيرة بحكم تطور قيم ومفاهيم التعايش الاجتماعي، ومركز الفرد في هذا التعايش ومؤسساته. لذلك كان التعبير بالمعروف بليغا، ويكيف بالتدرج المرن لأحكام تنظيم الأسرة، فالتنظيم الذي كان قائما يتعذر تقويضه دفعة واحدة لأن ذلك يعني هدم قيم الناشئين فيه، وتخريب هوية حياتهم، وهو ما يعاكس آية (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن).

رابعا – تجاوز المعروف ظلم وعدوان:

الأحكام المنظمة للأسرة والتي أمر الله بإخضاعها لميزان "المعروف" سماها القرآن حدود الله، واعتبر تجاوزها ظلما وعدوانا. نقرأ في سورة البقرة وحدها التأكيد على "حدود الله" سبع مرات:

    1. (تلك حدود الله فلا تقربوها)-187.
    2. (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)-229.
    3. (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله، وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون، وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضرار لتعتدوا، ومن يــفعل ذلك فــقد ظلم نفـــسه ولا تتخذوا آيات الله هزؤا)-230 و231.
  وإذا كان تجاوز "المعروف" انتهاكا لحدود الله وظلما وعدوانا، فإنه يتعين على المجتمع سن القواعد والأحكام التي تمنع الظالم من عدوانه، وتحدد الجزاء لمن لم يمتثل وزاغ في سلوكه.
  هذه بعض المبادئ المميزة للتشريع الإسلامي في مجال تنظيم الأسرة ووضعية المرأة وحقوقها إزاء الرجل.
  فهل راعاها الاجتهاد الفقهي فيما قرره من أحكام في موضوع حقوق الرجل والمرأة عموما، وفي مركز الزوجين داخل الأسرة خصوصا؟
  هذا ما نحاول الجواب عنه في الفقرة الموالية.
  الفقرة الثانية : التفسير الفقهي ومناقشته.
  نؤكد في البداية أن ملامح التفسير الذي نعرضه ونناقشه ليس محل إجماع الفقه، ومع ذلك يمكن القول إنه التفسير الذي يشكل الثقافة السائدة في المجتمع الإسلامي حول حقوق الرجل والمرأة داخل الأسرة وخارجها.
  وموضوع حقوق الرجل والمرأة واسع جدا يتعذر تناوله في مقال. لذلك نقتصر في المجال الاجتماعي على الشهادة، وفي مجال الأسرة على الولاية، والقوامة، وإنهاء العلاقة الزوجية، والرجعة وعدة المتوفى عنها زوجها.
  الفرع الأول : الشهادة.
  يجمع الفقه على القول بأن القيمة الإثباتية لشهادة المرأة أمام القضاء هي نصف قيمة الرجل. فهل هذا ما يقرره القرآن فعلا في الآيات التي تناولت الشهادة؟
  الشهادة بالاصطلاح القضائي أوردها القرآن بمعنيين أو اعتبارين اثنين:
  1) وسيلة توثيق وحفظ للحقوق تجري بين أطراف العلاقة والشهود عند إنشاء الحق موضوع الشهادة.
  2) وسيلة إثبات يؤديها الشاهد أمام القاضي.
  فأين ذكر القرآن الشهادة باعتبارها وسيلة توثيق؟ وأين أوردها وسيلة إثبات؟ وعندما أوردها وسيلة إثبات، هل حدد قيمتها الإثباتية وفرضها على القاضي؟ أم ترك لهذا الأخير صلاحية التقدير للأخذ بالشهادة أو استبعادها؟
  نحاول الجواب عن هذه الأسئلة فيما يلي:

  أولا – الآيات التي أوردت الشهادة باعتبارها وسيلة توثيق:
  نشير في البداية إلى أن هذا النوع من الشهادة كان موجودا قديما قبل أن تنتشر الكتابة، وتستكمل عناصر مقوماتها، وقد اختفى اليوم ولم يبق له وجود، ولا نجد أي قانون حديث يوجه المتعاقدين إلى توثيق تصرفاتهم والتزاماتهم عن طريق ذاكرة الشهود. فقد أصبحت الكتابة هي الوسيلة المعتمدة والمأمونة لتوثيق الالتزامات وحفظ الحقوق.
  لذلك فإن نقاشنا لهذه الشهادة يهدف فقط إلى فهم الآيات التي وردت فيها حيث كانت ما تزال معمولا بها وقت نزول الرسالة.
  كما نثير ملاحظة ثانية وهي أن الشهادة كوسيلة توثيق وردت على نوعين: توثيق التصرفات القانونية، وتوثيق الكتابة التي تضمنت تصرفا قانونيا.
1 - توثيق التصرفات القانونية غير المكتوبة:
وردت في هذا الشأن أربع آيات:
    1. (وأشهدوا إذا تبايعتم).
    2. (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم).
    3. (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم، إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت).
    4. (فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عدل منكم).
  وما يمكن استخلاصه من هذه الآيات الأربع هو إرشاد المسلمين إلى توثيق حقوقهم وتصرفاتهم القانونية عن طريق إحضار الشهود عند إجرائها وإشهادهم عليها ليحتفظوا بها في ذاكرتهم إلى وقت الحاجة إلى أداء شهادتهم.
أما عدد الشهود وصفاتهم، فلم تتعرض لهما الآيتان الأوليان، وأشارت الآية الثالثة إلى العدد والصفة بأن يكون الشهود اثنين من المسلمين ذوي عدل أو من غير المسلمين، بينما اقتصرت الآية الرابعة على شاهدين ذوي عدل من المسلمين.
  ويبدو أنه لا مجال للقول بحمل المطلق على المقيد، لأن الموضوع لا يتعلق بعدد الشهود الذين تثبت بهم الدعوى ويجب على القاضي الحكم وفق شهادتهم، فهذا الحكم لم يقرره القرآن نهائيا كما سنرى. والآيات كلها لا علاقة لها بالقيمة الإثباتية للشهادة أمام القاضي، وإنما تذكر الشهادة كوسيلة لتوثيق الحق وحفظه لا غير.
  والآيات السالفة الذكر كلها لم تشترط في الشهود أن يكونوا رجالا، وصفة "ذوا عدل" الواردة في الآيتين الأخيرتين لا تعني الذكور دون الإناث، فالأغلبية المطلقة من الأحكام والتكاليف جاءت في القرآن بصيغة المذكر، ومع ذلك فإنها تشمل الجنسين بإجماع الأمة.
  وفي مجال الشهود بالذات جاء في الآية 282 من سورة البقرة (ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) ولم يقل أحد إن كلمتي "الشهداء" و"دعوا" قصد بهما الرجال وحدهم دون النساء.
  وأخيرا فإن هذه الشهادة الخاصة بتوثيق التصرفات تخضع قيمتها الإثباتية لتقدير القاضي سواء كان الشاهد واحدا أو متعددا رجالا أو نساء ذوي عدل أم لا، كما سنوضح ذلك بعد قليل.

2 – توثيق الكتابة والتصرف القانوني المضمن فيها:
  وردت بهذا النوع من التوثيق الآية 282 من سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب، كما علمه الله فليكتب، وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا، فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل، واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى).
  الشهادة المشار إليها في هذه الآية تتميز عن الشهادة العادية بما يلي:
أ - أنها تكون على التصرف القانوني (عقد الدين) وعلى الكتابة التي تتضمن هذا التصرف.
ب - أنها توثق الكتابة، أي على عكس ما نحن عليه الآن من توثيق الشهادة بكتابتها، فإن الشهادة الواردة في الآية توثق بالكتابة.
ففي وقت نزول رسالة الإسلام كانت الكتابة العربية ما تزال في مراحلها الأولى، حيث كانت حروفها لا تنقط، ولا تشكل، الأمر الذي يجعل الصورة الواحدة للكلمة قابلة للقراءة بعدة صيغ عن طريق تغيير تنقيط الحروف أو حركاتها. فضلا عن بساطة رسم الحروف حتى أجمع الفقه على القول بأن الشخص إذا تعرف على كتابته ولم يتذكر مضمونها لا يجوز له أن يشهد بهذا المضمون "لأن الكتابة تشبه الكتابة".
ج - أنها شهادة معقدة مقارنة بالشهادة العادية إذ يطلب من الشاهد أن يتذكر طرفي العقد ومبلغ الدين وتاريخ ومكان وطريقة الوفاء به مثلا، ويتذكر في نفس الورقة شكل الكتابة وحجمها وأنه لم يقع تحريف أو زيادة في عدد الكلمات والأسطر المضمنة في الورقة المشهود عليها.
د - نتيجة للتعقيد السالف الذكر، فإن الشهود لا يستمع إليهم فرادى عند أدائهم لهذه الشهادة، وإنما يحضرون مجتمعين ليذكر بعضهم بعضا ويتعاونون على التأكد من أن الدائن لم يغير شيئا من وثيقة الدين التي أشهدهم الطرفان عليها. وهوما أشارت إليه الآية (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى).
ومعلوم أنه في الشهادة العادية لا يسمح للشاهد بالاستعانة بشاهد آخر في أداء شهادته، ويفرض القانون الاستماع إلى كل شاهد في غيبة الآخرين.
هـ - هذه الشهادة الخاصة بتوثيق الكتابة انتقلت إلى ذمة التاريخ ولم يعد لها وجود بعد أن اكتشف الإنسان وسائل  لتوثيق الكتابة وصيانتها من الزيف والتحريف أكثر ثقة واطمئنانا من ذاكرة الشاهد ونباهته.
ثانيا - الآيات التي أوردت الشهادة باعتبارها وسيلة إثبات:
1) (واللاتي ياتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم، فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا)
2) (والذين يرمون الـمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)
3) ما جاء في آخر الآية 106 و107 و108 من سورة المائدة (تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين، فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين، ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم).
4) (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)
هذه الآيات المتعلقة كلها بالشهادة كوسيلة إثبات نلاحظ بشأنها:
    1. اختلاف عدد الشهود: أربعة، اثنان، واحد.
    2. اختلاف صفاتهم: بدون صفة، ذوا عدل، غير مسلمين، فاسق.
    3. الشهادة فيها تتعلق بالتصرفات القانونية (آية المائدة) وبالوقائع القانونية (الآيات الأخرى).
    4. أنها لا تفرق بين الرجال والنساء، فأي سند للقول بأن الشهادة أمام القضاء تختلف بين الرجال والنساء؟
ثالثا – القيمة الإثباتية للشهادة :
الآيات الأخيرة التي وردت فيها الشهادة باعتبارها وسيلة إثبات، هل حددت لها قيمة إثباتية لا يسع القاضي إلا تطبيقها؟ أم تركت لهذا الأخير الصلاحية الكاملة لتقديرها؟
من الواضح أن الآيتين المتعلقتين بإثبات جريمة الزنا حددتا عدد الشهود، وأنه بشهادتهم تثبت الجريمة، لذلك فإن القاضي لا يمكنه أن يقبل شاهدين أو ثلاثة كما لا يملك صلاحية رد شهادة أربعة شهود بدعوى عدم اقتناعه بها.
أما ما عدا جريمة الزنى فلا يفرض على القاضي عدد الشهود ولا صفتهم تعلق الأمر بالتصرفات القانونية (العقود والالتزامات بالإدارة المنفردة) أو بالوقائع القانونية .
فآية سورة الأنعام الشاهدان فيها مسلمان ذوا عدل، أو غير مسلمين ومع ذلك سوت بينهم في إجراء التحقيق معهم عن طريق أداء اليمين في المسجد بعد الصلاة للتأكد من صحة الشهادة متى طعن فيها ورثة المتوفى. وأكدت الآية أن الهدف من هذا التحقيق هو الوصول إلى أداء الشهادة على وجهها الصحيح.
وآية سورة الحجرات تتعلق بشهادة شاهد واحد فاسق، ولم تأمر الآية بنبذ شهادته وعدم سماعها، وإنما أمرت بالتثبت منها أي بإجراء البحث الملائم للكشف عن صدقها أو كذبها.
الآيتان إذن لم تفرضا على القاضي عددا محددا من الشهود، ولا توفر صفة معينة في الشاهد، ولم تسلباه سلطة تقدير ما في الشهادة من مؤيدات الصدق أو الكذب، كانت الشهادة من مسلم أو غير مسلم، من مسلمين ذوي عدل أو من مسلم فاسق. نعم، إن القاضي في ممارسته سلطته التقديرية يأخذ قطعا في الاعتبار: عدد الشهود وما يتصف به كل شاهد في سلوكه العام  مما يرجح الصدق أو التلفيق في شهادته.
كما أن الآيتين لم تشيرا إلى جنس الشهود، فبالأحرى التمييز بين شهادة الرجال وشهادة النساء.
وأخيرا، الآيتان لم تحصرا وسائل الإثبات أمام القضاء في الشهادة، واستبعدت غيرها.
لكن الفقه انتهى في الرأي السائد فيه إلى عكس كل هذا، فذهب إلى:
    1. اشتراط "العدالة" في الشاهد، ومنع قبول شهادة غير العدل.
    2. سلب القاضي تقدير القيمة الإثباتية للشهادة.
    3. تقرير مساواة شهادة امرأتين لشهادة رجل واحد.
    4. حصر وسائل الإثبات أمام القضاء في "شهادة العدول" أو ما يتممها.
  إن القوانين الحديثة تجعل أداء الشهادة من الحقوق المدنية للفرد، والحرمان من أدائها يعتبر عقوبة جنائية يجب أن يصدر به حكم قضائي في الحالات وللمدة التي يحددها القانون.
  كما تتفق هذه القوانين على أن القيمة الإثباتية للشهادة موكولة إلى السلطة التقديرية للقاضي في الحالات التي يسمح فيها القانون بالإثبات بالشهادة.
  وإن الأخذ بمبدأ شهادة فرد واحد تساوي في قيمتها الإثباتية شهادة شخصين اثنين لمجرد الاختلاف في الجنس يبدو مخلا بالمفهوم القضائي للإثبات.
  ونعتقد جازمين أن نصوص شريعة الإسلام تتفق مع القوانين السالفة الذكر، فلم تحدد عدد الشهود والقيمة الإثباتية للشهادة إلا في جريمة الزنى، وفيما عداها تركت للقاضي صلاحية التقدير بالنسبة لعدد الشهود والقيمة الإثباتية لشهادتهم، كما لم تقرر لشهادة المرأة نصف القيمة الإثباتية لشهادة الرجل، وقد عرضنا بإيجاز ما استندنا عليه في هذا الاعتقاد، ونأمل من الجميع الرجوع إلى نصوص الشريعة الثابتة وإعادة قراءتها لاستخلاص ما يطمئن إليه القلب وينشرح للنطق به اللسان، ولا يكتفى بالنقل والحكاية، والتعبد بالرواية.
الفرع الثاني : العلاقات الأسرية
  عـدد مـن المصطلحات المستعملة في العلاقات الأسرية، يحـدد مفهومها وضـعـية المـرأة وما لـها من حقوق
  وعليها من التزامات إزاء الرجل داخل مؤسسة الأسرة.
  هذه المصطلحات منها ما لم يرد به نص ثابت مثل الولاية على المرأة في إبرام عقد زواجها،  ومنها ما وردت به نصوص الشريعة مثل القوامة، والطلاق، والرجعة، وعدة المتوفى عنها زوجها.
  والملاحظة العامة التي يمكن إبداؤها في الموضوع هي احتفاظ كل هذه المصطلحات بنوعيها بالمفهوم الاجتماعي الذي كانت تدل عليه قبل نزول رسالة الإسلام. طبق ذلك في السلوك والممارسة، ورسخه "الاجتهاد" وتفسير النصوص.
فإبرام المرأة عقد زواجها رغم اعتراف الإمام مالك بأنه ليس محرما من الله ولا من رسوله، وأنه أمر اجتهادي "أجازه قوم وكرهه قوم"، إلا أنه مع ذلك بلغ بالولاية حد منح الأب ووصيه حق إجبار البنت على الزواج رغم معارضتها ما دامت بكرا وإن بلغت الثلاثين أو الأربعين من عمرها.
  وإنهاء العلاقة الزوجية نزل به الفقه إلى أدنى ما يتصور من الصيغ المستعملة للتعبير عنه حتى تحدث عن طلاق نساء لم يتزوجهن المطلق بعد، وعن ربط الطلاق بوقائع وأحداث في المستقبل، وعن طلاق الشعر، والظفر، والسن، واللعاب، والعرق.. فضلا عن منح الزوج سلطة التحكم في وصف الطلاق بالرجعي أو بالبائن بينونة صغرى أو كبرى، وتفريق الطلاقات وجمعها كان جادا فيما نطق به أو هازلا..
  ومثل هذا يقال في الرجعة، والقوامة، وعدة المتوفى عنها زوجها، كما سنبين ذلك فيما يلي:

أولا – الولاية في الزواج :
  سبقت الإشارة إلى عدم ورود نص متفق عليه بشأن منع المرأة من عقد زواجها، ويعترف بهذا حتى بعض  القائلين بوجوب الولاية ومنهم الإمام مالك.
  الولاية على المرأة في زواجها تشمل صلاحيتين: موضوعية وشكلية.
  الصلاحية الموضوعية تعني التدخل في قبول أو رفض الزواج، وذلك مع الاعتراف لها هي كذلك بحق القبول أو الرفض فلا يتم الزواج إلا بقبولها هي والولي معا. أو باستئثار الولي بالقبول أو الرفض دون التفات إلى رأي المعنية بالأمر (ولاية الإجبار).
  والصلاحية الشكلية هي نطق الولي بالإيجاب أو القبول نيابة عنها أمام الشهود أو من يؤهله القانون لتوثيق عقد الزواج: وهو ما يعبر عنه بكون صيغة المرأة لا ينعقد بها الزواج.
  وقد يضاف إلى ذلك حق الولي في أخذ مقابل من الزوج كما حدث في زواج موسى  (قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين).
  وهي قديمة قدم التاريخ كما تثبت ذلك هذه القصة القرآنية، والنصوص التي عثر عليها من الحضارات القديمة.
  ومن المؤكد أن مفهومها تأثر قوة وضعفا أو شدة ومرونة بنموذج النظام الاجتماعي في جانبه المنظم لعلاقات الرجل بالمرأة، ولمركز رئيس الأسرة ومسئوليته المادية والمعنوية عند أفرادها.
  وإذا رجعنا إلى مجمل الآراء الفقهية في موضوع الولاية على المرأة في زواجها نجد:
1 – الاختلاف في مبدأ الولاية بشقيها الموضوعي والشكلي:
   الشق الموضوعي للولاية هو حق الولي في رفض الزواج إذا لم يتوفر في الزوج شرط الكفاءة. وهذاالشرط مختلف  فيه. يقول ابن قدامة: "اختلفت الرواية عن أحمد في اشتراط الكفاءة لصحة النكاح، فروي عنه أنها شرط له.. والرواية الثانية عن أحمد أنها ليست شرطا في النكاح، وهذا قول أكثر أهل العلم، روي نحو هذا عن ابن عمر وابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، وعبيد بن عمير، وحماد بن أبي سليمان، وابن سيرين، وابن عون، ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، لقوله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
  وفي البدائع للكاساني: الكفاءة "قال عامة العلماء أنها شرط، وقال الكرخي إنها ليست بشرط أصلا، وهو قول مالك، وسفيان الثوري والحسن البصري".
  أما الشق الشكلي أي قيام الولي بإبرام العقد نيابة عن المتزوجة فهنالك من يوجبه ويرى أن المرأة فاقدة لأهلية إبرام عقد زواجها، وإن فعلت فسخ زواجها ولكن بطلاق.
  بينما يرى آخرون أن المتزوجة البالغة لها أن تعقد زواجها بنفسها ولكن مراعاة للعادات ينبغي أن تقدم وليها لإبرام العقد.
  وممن يقول بهذا الرأي أبو حنيفة الذي يرى أن الصغيرة دون البلوغ هي التي يجب أن ينوب عنها وليها في العقد "لعجزها عن التصرف على وجه النظر أو المصلحة بنفسها وبالبلوغ والعقل زال العجز وثبتت القدرة حقيقة، ولهذا صارت من أهل الخطاب في أحكام الشرع، إلا أنها مع قدرتها حقيقة عاجزة عن مباشرة النكاح عجز ندب واستحباب، لأنها تحتاج إلى الخروج إلى محافل الرجال، والمرأة مخدرة مستورة والخروج إلى محفل الرجال من النساء عيب في العادة، فكان عجزها عجز ندب واستحباب لا حقيقة، فثبتت الولاية عليها على حسب العجز، وهي ولاية ندب واستحباب لا ولاية حتم وإيجاب إثباتا للحكم على قدر العلة".

2 – الاختلاف في مضمون الصلاحية الموضوعية للولاية :
  كل القائلين بتدخل الولي في قبول ورفض زواج المرأة، يتفقون على أن للولي صلاحية رفض الزواج إذا لم تتوفر "الكفاءة" في الزوج.
  وهذا يستدعي ملاحظتين: الأولى: اشتراط "الكفاءة" في الزوج دون الزوجة يقتضي أن أغلبية الرجال على الأقل لا يساوون أغلبية النساء في كفاءتهن، إذ من المعروف أن ما يطلب إثباته هو غير الغالب أو النادر، أما الغالب فلا حاجة إلى إثباته.
  وهذه النتيجة تتعارض مع ما ينوه به الفقه في شبه إجماع من تفضيل جنس الرجل على جنس المرأة ويبني على ذلك تخويله القوامة في تسيير الأسرة والتحكم في سلوك المرأة ناقصة العقل والدين، وفي إنهاء العلاقة الزوجية...
الملاحظة الثانية: أن "مضمون الكفاءة" لم يتفق الفقه ولو على عنصر واحد من عناصره التي هي في الجملة: الدين، والنسب، والحرفة أو الصناعة، والمال أو اليسار.
  فهناك من اقتصر على الدين (أي التدين) وحده مثل الإمام مالك. ففي المدونة "أرأيت إن كانت ثيبا فخطب الخاطب إليها نفسها، فأبى والدها أو وليها أن يزوجها، فرفعت ذلك إلى السلطان، وهو دونها في الحسب والشرف، إلا أنه كفء في الدين فرضيت به وأبى الولي؟ قال يزوجها السلطان، ولا ينظر إلى قول الأب والولي إذا رضيت به وكان كفئا في دينه. قال [ ابن القاسم ] وهذا قول مالك. قلت أرأيت إن كان كفئا في الدين ولم يكن كفئا لها في المال فرضيت به وأبى الولي أن يرضى أيزوجها السلطان أم لا؟ قال ما سمعت من مالك في هذا شيئا، إلا أنني سألت مالكا عن نكاح الموالي في العرب فقال لا بأس بذلك.. ولقد قيل لمالك إن بعض هؤلاء القوم فرقوا بين عربية ومولاة، فأعظم ذلك إعظاما شديدا وقال أهل الإسلام كلهم بعضهم لبعض أكفاء لقول الله في التنزيل (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)".
  وهناك من أخرج التدين من مفهوم الكفاءة مثل محمد بن الحسن الشيباني ومن اعتبر كل العناصر السابقة غير داخلة في الكفاءة مثل ابن حزم.
  فهل شرع الإسلام "الكفاءة" الأخت الشقيقة للطبقية؟ وإذا شرعها فكيف لم يحدد شيئا من مفهومها، وترك الناس يذهبون في تأويلها ذات اليمين وذات اليسار؟
  وهل أخبرت شريعة السماء بأن الله خلق النساء في درجة أعلى ومع ذلك منعهن من تزويج أنفسهن ثم أمر الرجال –الأدنى درجة- بأن لا يزوجوهن إلا ممن في درجتهن؟
  إن تدخل الآباء والأقارب في تزويج المرأة تقليد اجتماعي قديم خلقته طبيعة النظام الذي عاشه الإنسان في الأسرة والعشيرة والقبيلة، والنظرة التي تكونت من خلاله إلى العرض والشرف وانحراف المرأة.
  ولا جدال في أن التدخل يعتبر محمودا وشيئا جميلا إذا اقتصر على النصح والمشورة والمساعدة على إدراك الراغبة في الزواج ما تنبغي معرفته قبل التزامها بالعقد.
  ولكن الذي حدث هو التحكم الكلي من الأقارب، وتغييب إرادة المتزوجة وقد تم هذا بإجراءات ملتوية، لأنه لم يكن في الإمكان التصريح بحرمان المرأة من التقرير في أمر زواجها، لذلك قيل أولا إن الولي لا صلاحية له في الرفض إلا في حالة انعدام الكفاءة، ولكن في ذات الوقت خول الولي وحده حضور مجلس العقد والنطق بالقبول نيابة عن المرأة الغائبة، وألزمت المرأة في حالة امتناع الولي من تزويجها أن تثبت أن خاطبها تتوفر فيه "الكفاءة"، وبهذه الطريقة "الذكية" بقي التقرير كله في يدي الولي وليس في يد المتزوجة منه شيء، إلا ما يتنازل عنه لفائدتها احتياطا لمسئوليته الدينية أو الأخلاقية.
  بناء على كل هذا يبدو:
  1 - أن التعليل الذي أسس عليه أبو حنيفة صحة عقد المرأة زواجها سليم، فلا توجد حالة واحدة في أحكام الشريعة ولا في أي قانون وضعي يعترف فيها للمتعاقد بأهلية التعاقد والتقرير في ما يقبله أو يرفضه من شروط ثم يمنع من مجلس العقد ومن النطق فيه بالإيجاب أو القبول.
  2 – رجحان الرأي القائل بعدم اشتراط الكفاءة في الزواج:
    1.  لعدم ثبوت عناصرها بنص شرعي، وعدم اتفاق الفقه على أي عنصر منها.
    2.  لارتباطها بالطبقية التي لا يقرها الإسلام.
    3.  لأن التدين يتفاوت فيه الناس قطعا، ولكن يتعذر وضع معيار موضوعي لهذا التفاوت الذي يؤثر على الكفاءة في الزواج.
    4.  لأن ما يقبله أو يرفضه كل زوج من أوصاف في الآخر يخضع للتقدير الشخصي لكل رجل وامرأة، ومن التعسف تحديد تلك الأوصاف بمعايير عامة تطبق على جميع الأفراد.
  لهذا يمكن القول إن الولاية في الزواج كما تطبق الآن في أغلب الدول الإسلامية حددها جزء من الاجتهاد الفقهي، وكان فيها جانب التقليد واضحا. نعم إن الإسلام يحث على التشاور وعلى تقديم النصيحة والاستماع إليها، وفي مقدمة ما يطلب فيه ذلك مشروع الزواج وفيما بين أفراد الأسرة لكن دون أن يتجاوز ذلك مصادرة إرادة المتزوج والافتيات عليه ولو من أقرب المقربين إليه.
  ثانيا – القوامة :
  يتميز مجتمع الإنسان بـ "تنظيم" سلوك أفراده في علاقات بعضهم ببعض، ولا يستثنى من ذلك شيء من هذه العلاقات بدءا من التي تخص شخصين اثنين كالزوج والزوجة إلى التي تهم المجتمع كله: الدولة ومؤسساتها.
  ولا بديل عن التنظيم إلا الفوضى، والفوضى طريق للفناء وليست دعامة بناء.
  ولكن "التنظيم" تتفاوت قواعده في الصرامة والمرونة بسبب طبيعة العلاقات أو المؤسسة المعنية، أو بسبب اختلاف الزمن وتطور مفاهيم التعايش فتندثر أنظمة وتستجد أخرى.
  في موضوع "القوامة" التي نناقشها، يبدو أننا نتناوله بنوع من السطحية بإغفال تنوع وتفاوت الأنظمة التي يخضع لها المجتمع الإنساني في مؤسساته والعلاقات بين أفراده، ويبدو ذلك جليا في الاحتجاج بكون القوامة ضرورية لأن إلغاءها يعني الفوضى في سير مؤسسة الأسرة.
  وما نراه سليما هو القول بأن مؤسسة الأسرة لا غنى لها عن "تنظيم"، وهذا التنظيم يتعين أن يكون منسجما مع طبيعتها باعتبارها مكونة من زوجين أولا ثم يضاف إليها أطفال. ومركز كل واحد من الزوجين داخلها وكذا الأطفال يتأثر بالمفاهيم العامة للتعايش الاجتماعي والبشري التي تخضع لسنة التطور الحتمية.
  ومن هذا المنظور نقول جازمين باختلاف مفهوم القوامة بين نصوص القرآن وبين الثقافة السائدة المشكلة من التفسير الفقهي لتلك النصوص.
  فالقرآن الذي أشار إلى القوامة، أخضع مفهومها بنص آمر لـ "المعروف" (وعاشروهن بالمعروف) و"المعروف" يتغير معناه حتما بتغير الواقع الاجتماعي وملابساته.
  والتفسير الفقهي للقوامة يمكن القول إنه كان منسجما مع "المعروف" الذي كان قائما وقت ظهور هذا التفسير.
فهو يرى مثلا أن القوامة تخول الزوج حقوق:
    1. منع الزوجة من الخروج من بيت الزوجية إلا لعذر.
    2. منعها من الخروج لحضور مجلس تعليم أو وليمة أو زيارة والديها أو من أداء شعائر دينية.
    3. منعها من العمل ولو داخل البيت.
    4. استعمال العنف الجسدي مع تطبيق المقولة الشهيرة: "لا يسأل الرجل فيم ضرب أهله".
    5. الإضرار بالزوجة وإن كان ممنوعا شرعا، لكن المتضررة لا حق لها في رفع الأمر إلى القضاء.
  هذه بعض وليس كل "الحقوق" التي تخولها القوامة للرجل إزاء زوجته في الثقافة المتداولة. فهل هي منسجمة مع "المعروف" الذي أمر به القرآن أكثر من عشرين مرة في الآيات المتعلقة بالأسرة وفي مقدمتها: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة)، و(عاشروهن بالمعروف)؟.
  فهل هذه هي القوامة التي أشار إليها القرآن ؟!
ثالثا – إنهاء العلاقة الزوجية :
  ورد في القرآن أن الزوج يــطـلق (فإن طـلقها فلا جـناح عليهما أن يتراجعا) كما سـمـيت المـرأة مـطــلقة (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)
لكن ما ينبغي استحضاره هو:
1 – أن هذه الصيغ لم يؤسسها القرآن وإنما كانت الصيغة الوحيدة المستعملة في التخاطب تعبيرا عن الممارسة اليومية الفعلية، وهي أن الطلاق يملكه الرجل وحده، يتصرف فيه متى شاء، وكيف شاء، أما المرأة فإنها محل للطلاق، وليست طرفا فيه، وكل ما يمكنها أن تفعل هو أن تؤدي للزوج ما يرضى به ليصرح بطلاقها، وبذلك لم يكن هناك مصطلح آخر غير "مطلق" و"مطلقة" المعبرين عن كون الزوج دائما هو المطلق (باسم الفاعل)، والزوجة مطلقة (باسم المفعول) في جميع الأحوال.
2 – القرآن عندما احتفظ بالمصطلحات المتداولة في موضوع العلاقة الزوجية وإنهائها، أرفق ذلك بقيود.
نكتفي بالإشارة إلى الآيتين الأساسيتين في تشريع الطلاق:
    1. (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان... تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)
    2. (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف)
لعل مما لا يختلف فيه اثنان أن هذه الآيات تقرر بصريح العبارة، الأحكام التالية:
    1. الاستمرار في العلاقة الزوجية وإنهاؤها يحكمهما مبدأ "المعروف".
    2. مبدأ "المعروف" يشكل "حدود الله" التي يبيح بها سبحانه لعباده المتقين دائرة المباح والجائز من بقاء العلاقة الزوجية وإنهائها.
    3. المتجاوز لهذه الحدود والدائرة يعتبر "متعديا" و"ظالما".
ومن المؤكد أن تطبيق هذه الأحكام لا يبقى حيفا في علاقات الزوجين وحقوقهما كطرفين في هذه العلاقات، فمن أين أتى الحيف والخلل؟
الحيف آت من التفسير الفقهي الذي أوكل تطبيق "المعروف" إلى الزوج، ومنع القضاء من التدخل لمنع "تجاوزه" للمعروف، بل فرض على القضاء تنفيذ "طلاقه" مهما كان متعسفا فيه، أو "مخالفا للسنة" وبأي صيغة بدا له أن يجريها على لسانه وحتى بصيغة الهزل والفكاهة
وبالمقابل، لا يمكن للمرأة أن تتخلص من العلاقة الزوجية إلا بإرضاء الزوج بمقابل تدفعه له أو بإثباتها أمام القضاء إضراره بها "من غير ذنب ارتكبته".
وسند الفقه فيما ذهب إليه أمران:
الأول: أن الطلاق هو إنهاء الزوج لحقه الذي هو حل التمتع بالمرأة وصاحب الحق حر في أن يتنازل عن حقه ويضع حدا للاستفادة منه في أي وقت شاء وبأي وسيلة أراد.
والثاني: أن ما أمر الله به من المعاشرة بالمعروف، والتسريح بالإحسان أو المفارقة بالمعروف ومنع الإضرار بالزوجة.. كل ذلك المخاطب به هو الزوج، إذا لم يمتثل له كان قد فعل حراما، وفعله المحرم نافذ ولا حق للقضاء في منعه من تصرفاته الحرام وحتى من إعلان بطلانها.
لكن هذا السند المزدوج لا يبدو سليما.
فالقول بأن الطلاق هو مجرد إنهاء لحق أو إزالة لملك تصعب نسبته إلى شريعة الإسلام التي وصفت عقد الزواج بالميثاق الغليظ، وجعلت كلا من الزوجين لباسا للآخر. فكيف نقول "النكاح معاوضة البضع بالمال" بما يترتب عن هذه العبارة من النتائج التي تنزل بالزواج إلى الدرك الأسفل..؟
وكذلك القول بأن المخاطب في أحكام العلاقة بين الزوجين هم الأزواج دون القضاء والأمة، يتناقض مع المبادئ البدهية للشريعة التي منها: حق المظلوم في الالتجاء إلى القضاء والسلطات العامة لرفع الحيف عنه، وعدم اعتراف الشريعة بآثار التصرف المخالف لأحكامها فبالأحرى أن تأمر الأمة بتنفيذ آثاره مثل التصرف الموافق لما أمرت به.
والمعروف الذي أمر به في العلاقة بين الزوجين، اعتبر القرآن تجاوزه ظلما، فكيف لا يكون تنظيم هذا المعروف لتفادي الظلم واجبا على الأمة؟. وقوانينا الحالية تدخلت فعلا في تنظيم أحكام تتعلق بالنظام الأسري ذاته، لم يزد القرآن على الأمر فيها بالمعروف. ومن الأمثلة:
    1. نفقة المطلقة المرضع (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف).
فهذا المعروف أسند اليوم تقديره عند الاختلاف إلى السلطة القضائية في جميع قوانين الدول الإسلامية.
    2. أخذ الولي من أموال اليتيم بالمعروف (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف)، والخطاب هنا موجه إلى الولي مباشرة ومع ذلك تدخلت القوانين فمنعته من استهلاك أي شيء لفائدته من مال اليتيم وإلا اعتبر مرتكبا لخيانة الأمانة، نعم منحته حق طلب أجرة تحددها المحكمة على أساس ما يخصصه من وقت لإدارة مال المحجور عليه.
هذان المثلان يؤكدان –إن احتاج الأمر إلى تأكيد- أن تنظيم العلاقات التي أخضعتها الشريعة لـ"المعروف" أمر واجب، تفاديا للشطط أو التحكم الذي يمكن أن يمارسه طرفا العلاقة أو أحدهما.
ولا ينكر أحد وجود الشطط في ممارسة التمسك بالعلاقة الزوجية، أو إنهائها، لذا نعتقد أن شريعة الإسلام تفرض تنظيم تلك الممارسة بالمعروف المحمود من المجتمع ومن ظروف حياته وملابسات واقعه.
رابعا – الرجعة :
إرجاع الزوج زوجته إلى العلاقة الزوجية في فترة العدة كان تقليدا معلوما يستعمله الزوج إذا أراد دون استشارة المرأة ولا اعتبار لأن يصدر منها القبول أو الرفض.
وأبقت على الرجعة الآيتان 228 و229 من سورة البقرة (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)، والآيتان تؤكدان:
    1. شرط قصد الإصلاح من الرجعة.
    2. أن ممارستها مرتبطة بمبدأ: لهن مثل الذي عليهن بالمعروف.
    3. استعمالها وهو الإمساك يجب أن لا يتم إلا "بمعروف".
لكن الفقه اعتبر القيدين الأخيرين أجنبيين عن الرجعة ولا علاقة لهما بها، والقيد الأول وهو قصد الإصلاح رأي لزومه دينيا لا قضائيا.
يقول الطبري: "أما فيما بينه وبين الله تعالى فغير جائز إذا أراد ضرارها بالرجعة لا إصلاح أمرها بمراجعتها. وأما في الحكم فإنه مقضي له عليها بالرجعة.. وإن أراد ضرار المراجعة برجعته فمحكوم له بالرجعة، وإن كان آثما برأيه في فعله ومقدما على ما لم يبحه الله له، والله ولي مجازاته فيما أتى من ذلك، فأما العباد فإنهم غير جائز لهم الحول بينه وبين امرأته"
وفي تفسير القرطبي: "الرجل مندوب إلى المراجعة، ولكن إذا قصد الإصلاح بإصلاح حاله معها وإزالة الوحشة بينهما، فأما إذا قصد الإضرار، وتطويل العدة، والقطع بها عند الخلاص من ربقة النكاح، فمحرم لقوله تعالى (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) ثم من فعل ذلك فالرجعة صحيحة وإن ارتكب النهي وظلم نفسه".
  ومما يعلل به الفقه عدم ربط نفاذ الرجعة بينه وبين المراجع وقصده إلى الإصلاح، أن النية أمر داخلي يصعب الاطلاع عليه.
  لكن من الواضح أن لا أحد يمكنه أن يقول بربط شرعية الرجعة بالنية المضمرة في ذهن الزوج، لأن هذه النية وإن أمكن الاستدلال عليها بالقرائن فإنها في حد ذاتها لا يتحقق بها إصلاح ولا إضرار.
  فالإصلاح –عقلا ومنطقا- لا يكون إلا لشيء فسد، والفاسد هنا هي العلاقة بين الزوجين التي طرد منها الوئام والسكينة وحل محلهما التنافر والخصام اللذان تسببا في الطلاق وتسبب هو بدوره في تعميقهما، والإصلاح يفرض إعادة الوئام وإزالة التنافر، وهو ما لا يتصور بغير قيام الزوجين أو أحدهما بعمل أو تصرف مادي يذيب الخلاف نهائيا أو يضعفه على الأقل بشكل يسمح بمواصلة الحياة الزوجية.
  ولذلك، فإن الإصلاح المبرر للرجعة لا يبحث عنه في نية الزوج وما يضمره في سريرته، وإنما في الأعمال والتصرفات الإيجابية التي يقوم بها هو أو الزوجة أو هما معا لإزالة أسباب الخلاف والخصام بينهما.
  ومن ناحية ثانية، الإصلاح المطلوب يكون بين الزوجين، فلا يتصور تحققه من غير اتفاقهما عليه وتراضيهما.
  كل هذا يؤكد أن الرجعة لا يمكن أن تتحقق بالشرط المقيدة به في كتاب الله إلا إذا رغب فيها الزوجان معا، وبعد أن يزيلا من الطريق أسباب الخلاف الذي أدى بهما إلى الطلاق.
خامسا – عدة المتوفى عنها :
  كان من العوائد المتوارثة إحداد المرأة على زوجها المتوفى مدة عام كامل تقضيه جبرا في بيت الزوج لا تلبس ثياب زينة ولا تستعمل طيبا، ولا تمشط ثم "عمدت إلى أشر بيت لها فجلست فيه حتى إذا مرت بها سنة خرجت ثم رمت ببعرة وراءها".
  وحدد القرآن عدتها في أربعة أشهر وعشر (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) دون إشارة إلى أي إحداد أو امتناع عن زينة الحياة العادية.
  لكن الرأي السائد في الفقه ذهب إلى أن المتوفى عنها يحرم عليها خلال العدة الخروج من البيت ويجب عليها ترك "الزينة كلها من اللباس والطيب، والحلي، والكحل، والخضاب بالحناء ما دامت في عدتها" ويلزمها ذلك "وإن كانت لا تدرك شيئا لصغرها".
  واستند القائلون بالإحداد إلى أن عبارة (يتربصن بأنفسهن) عامة تشمل الامتناع عن الزواج، وعن مغادرة البيت، وعن أدوات الزينة، كما استندوا إلى بعض الآثار التي منها:
    1. "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة اشهر وعشرا".
    2. "أن امرأة من قريش جاءت إلى رسول الله  فقالت إن ابنتي توفى عنها زوجها، وقد خافت على عينها وهي تريد الكحل، قال: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول وإنما هي أربعة أشهر وعشر".
لكن يبدو أن التفسير الذي قيل به للآية، واعتماد مثل هذه الآثار غير سليمين من المناقشة، لما يلي:
1 – عبارة (يتربصن بأنفسهن) هي نفسها التي وردت في عدة المطلقات (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) وقد وقع الإجماع على تفسيرها بالامتناع عن الزواج لا غير، ولم يقل أحد بمنع المعتدة من لباس وأدوات الزينة لذلك يبدو إخضاع نفس العبارة لتفسيرين مختلفين غير مقبول.
2 – بالنسبة لأخبار الآحاد المستدل بها، فإنه بصرف النظر عما يمكن أن يثار بشأن السند، يلاحظ على متنها:
أ – وجود أخبار آحاد أخرى معارضة لها، من ذلك ما نقل عن أسماء بنت عميس "قالت لما أصيب جعفر [ ابن أبي طالب ] قال لي رسول الله  تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت"
ب – يمنع الرسول  المتوفى عنها من الكحل لمداواة عينها التي تخاف عليها، والحال أن المرض يعفي من الصيام الذي هو عبادة وركن من أركان الإسلام، فكيف يمنع الإحداد على الزوجة التداوي وإن عرض ذلك صحتها للخطر؟
ج – في كتاب الله ما يقرب من عشرين آية في الوصاية بالوالدين والبرور بهما، وتعليم صيغ الدعاء والاستغفار لهما، وقرن الإحسان إليهما بعبادة الله وعدم الشرك به، ولم يرد شيء من ذلك بالنسبة للزوج، فكيف ينقلب الوضع ويعلو حق الزوج على حقوق الوالدين بتحريم الإحداد عليهما فوق ثلاثة أيام، وفرض الإحداد على الزوج مدة أربعة أشهر وعشرة أيام؟!
د – إذا رجعنا إلى الواقع كما يعيشه الناس نجد:
من ناحية، الحزن على موت الأبوين أعمق وأطول –على الأقل في الأغلبية المطلقة من الأحوال- منه على موت الزوج، بل في حالات غير قليلة لا يثير موت الزوج –أو الزوجة- شيئا من الحزن والأسى، كما إذا كانا متنافرين في حياتهما الزوجية، أو تزوج بثانية وترك الأولى في حالة إهمال، أو طلقها ومات داخل العدة.
ومن ناحية ثانية، من النادر الاستمرار الفعلي للحزن والألم العاطفي على ميت فترة أربعة أشهر وعشر ولو على الوالدين فبالأحرى الزوج.
لذلك يكون فرض الإحداد مدة أربعة أشهر وعشر يعني حمل الزوجة على سلوك المداهنة والنفاق عن طريق مظهر يشعر بالحزن وجرح العاطفة، ومخبر عادي أو مفعم بالحبور والانشراح. فهل نصادف في جميع التكاليف الشرعية مثل هذا أي التكليف بالشكل والمظهر وإن خالفه المضمر والجوهر؟
هـ – إذا كان الإحداد حقا للزوج على زوجته، حزنا منها على فراقه، ومراعاة لحرمة ذكراه، فما هو السبب لسقوط هذا الحق كليا أو جزئيا إذا كانت الزوجة حاملا ولو وضعت حملها بعد ثوان معدودة عقب وفاته؟
أليس كل هذا دليلا مقنعا بأن المتوفى عنها زوجها ليس عليها –كباقي الزوجات- إلا العدة، أي الامتناع عن الزواج إلى أن تضع حملها أو تمضي أربعة أشهر وعشرة أيام إذا كانت غير حامل، مثل المطلقة التي تعتد كذلك بوضع الحمل أو بثلاثة قروء أو بثلاثة أشهر؟
  فالمعتدة من طلاق أو وفاة ملزمة بالتربص أي عدم الزواج والوعد به ولم يلزمها القرآن بغير ذلك. والرأي الفقهي الذي يقول بالإحداد طيلة فترة عدة الوفاة يبدو متأثرا بالسلوك الاجتماعي الذي كان ما يزال متمسكا بهذا التقليد الموروث.
خلاصة واستنتاج
مما عرضناه يتأكد أن:
1 - مصطلح "حقوق الإنسان" ليس له دلالة محددة وثابتة لا يغيرها الزمن ولا يبليها القدم، وإنما له دلالة مرنة هي انعكاس لنظام التعايش الاجتماعي الذي تنسجه ثقافة الناس المشكلة من التقاليد والأخلاق والمعتقدات والتصورات الفكرية المختلفة…
  وتشمل هذه المرونة حتى ما يعبر عنه بحقوق الإنسان الأساسية كالحرية، وعدم العقاب عن فعل الآخرين.
  والنتيجة الحتمية للمرونة هي تغير مضمون المصطلح بتغير أنظمة المجتمع ومكونات ثقافته.
2 - بحكم ارتباط مفهوم حقوق الإنسان بالموروث الثقافي، والسلوك الممارس في المجتمع، لم يكن في إمكان الفقه التخلص من ذلك الارتباط ومن الواقع المحيط به، ويبدو ذلك من:
    1. التعامل المحدود مع كليات الشريعة ومقاصدها في الموضوع.
    2. الاعتماد شبه الكلي على الأحكام الجزئية، وبالأخص المستندة إلى أخبار آحاد عدد منها منتقد سندا فبالأحرى متنا.
    1. الاحتفاظ بالمفاهيم التي كانت سائدة لكثير من الألفاظ التي كانت متداولة في مجال علاقات الرجل بالمرأة، كالولاية، والقوامة، والطلاق، والرجعة والتأديب…
    1. إبعاد كثير من تصرفات الرجل ولاسيما الزوج عن التدخل القضائي وإقرار نفاذها ولو كانت محرمة شرعا، لعلة أن الرجال ائتمنهم الله على النساء وهو وحده الذي يحاسبهم، ولا تدخل للإمام والقاضي فيما يفعلونه وإن أضر بزوجاتهم أو خالف حتى أوامر الله في القرآن.
3 - مما زاد في إظهار عدم التوازن في الالتزامات والحقوق بين الرجل والمرأة داخل الأسرة وخارجها توقفُ الاجتهاد لمدة قرون، والاستمرار في ترديد الآراء التي قيل بها في بداية تأسيس المذاهب الفقهية حتى أصبحت هذه الآراء وما اختلط بها من تقاليد وأعراف هي الشريعة التي لا يجادل فيها إلا الضالون…
4 - الممارسة التشريعية والسلوكية الناتجة عن هذا الوضع الثقافي في المجتمع الإسلامي، يصعب القول بتوافقها مع الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان التي يحكمها تحقيق المعروف والعدل، ونبذ المنكر والظلم، كما أنها لا تتوافق مع كثير من المعايير الضابطة لحقوق الإنسان في ظل التعايش الاجتماعي الذي نحياه.
5 - ونتيجة حتمية لما سبق، يتعين البحث عن الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان من خلال نصوص الشريعة الثابتة وكلياتها عن طريق إعادة قراءتها مع استحضار الواقع وملابساته المحلية والعالمية. وقد حاولنا في هذا المقال تقديم أمثلة لنتائج القراءة المرغوب فيها، وبالتأكيد سيقبلها البعض ويرفضها البعض الآخر.
  ورجائي من القابلين أن يعضدوها بإتمام ما بدا لهم من نقص في التحليل أو قصور في الاستدلال، ومن الرافضين أن يؤسسوا رفضهم على التحليل الشخصي للنصوص وللواقع الذي تطبق فيه، ولا يكتفوا بالنقل والطعن في كل رأي مخالف بأن الأولين لم يقولوا به، ولذلك فهو شذوذ عن الاجتهاد الذي له قواعده وذووه..
  وأخيرا نود إبداء ملاحظة أساسية عن حقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية، وهي أن هذه الحقوق مسيجة دائما بالواجبات التي تشكل "حدود الله"  الممنوع تجاوزها، وبذلك تبقى ممارسة الحق دائما في حدود أداء الواجب الذي يضمن به احترام حقوق الآخرين.
  وهذه الميزة أخذت تتلاشى في المفهوم المعاصر لحقوق الإنسان الذي يركز على "الحق" دون الاهتمام كثيرا بـ"الواجب" الذي يتعين احترامه في ممارسة الحق، ويمكن أن نعتبر مثلا على ما نقول الاتفاقية الدولية الصادرة عام 1979 حول إلغاء جميع أنواع التمييز ضد المرأة:
  فالديباجة وموادها الموضوعية الست عشرة استعملت كلمات:
    1. حق أو حقوق (56) مرة.
    2. مساواة (36) مرة.
    3. مسئولية (7) مرات.
    1. التزام (2) مرتين.
    2. واجب (1) مرة واحدة.
    3. تعاون أو تضامن مثلا لا وجود لهما.
   إنها صياغة تؤكد بوضوح مدى التركيز على توجيه الفرد إلى الإلحاح بالمطالبة بما يعتبره من حقوقه، وعدم الشعور بالمسئولية ووجوب احترام ما عليه إزاء الآخرين وهو ما أنتج الثقافة التي أخذت تشجع على أنانية الفرد، والنيل من قيم إنسانية نبيلة وعدم اكتراث بالشعور العام للمجتمع وضميره.
   هذا الجانب هو الذي ينبغي إبراز الرؤية الإسلامية إزاءه مساهمة في توجيه تطور حقوق الإنسان إلى الأفضل. والله المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل.

روابط مهمة

-

-

-

-

-

-

-

الواضحة - مجلة علمية محكّمة

الواضحة مجلة علمية محكّمة تصدر عن دار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا بالرباط.

المدير المســؤول: مدير دار الحديث الحسنية أ.د   أحمد الخمليشي.

التنسيق والتحرير: د. الناجي لمين د. محمد ناصيري د. عبد المجيد محيب.

سكرتير التحريــــــر: عبد الرحيم مطر.

الناشـــــــــــــــــــــــــــر: دار الحديث الحسنية مطبعة الأمنية - الرباط.